لم أستطع كتم مشاعري، وضحكت بصوت مرتفع عدة مرات عندما تابعت مشاهد الرئيس الأمريكي المنتهية ولايته جورج بوش وهو يتحاشى فردتي حذاء الصحفي العراقي منتظر الزيدي، وبعد لحظات فقط من توقيع الاتفاقية الأمنية التي تنظم وجود القوات الأمريكية في العراق بداية من العام القادم وحتى رحيلها النهائي. لا أدري بالتحديد معنى ما صدر عني فأنا، كما أصنّف نفسي، ضمن دائرة الذين يميلون إلى التعقل ووزن الأمور والابتعاد ما أمكن عن المشاعر الآنية والثورات الفجائية سواء كانت شخصية أو شعبية عامة، وأتفلسف طبعا، كما هو حال أصحاب تلك الدائرة، أثناء الحديث عن رد الفعل الحكيم المتعقل المتأني، وقد أغفل حينها، كما قد يغفل الكثيرون أيضا، تلك المشاعر المتراكمة على مر السنين في نفوس المظلومين والمكلومين والمنكوبين والمشردين والمهجّرين والجائعين وكل ما في القاموس مما يماثل هذه الكلمات أو يقاربها. إن الكلام سهل يسير بالنسبة لأولئك الذين يرون الجمر فقط ولم يحدث أن اكتووا به ولو مرة واحدة، وهكذا هو الحديث من بعيد عن مأساة الشعب العراقي فقد ينحرف إلى أصناف من الترف الفكري والصناعة اللفظية.. لأننا في حقيقة الأمر متفرجون فقط، حتى عند أقصى درجات تعاطفنا وحماسنا وبكائنا.. أما غير المتفرجين فعلا فهم أولئك الذين دمرت قوات الاحتلال الأمريكي بيوتهم وشردت أسرهم ورملت نساءهم ويتمت أولادهم وداست مقدساتهم وحرماتهم وحاولت أن تطمس حتى ذلك التاريخ وتلك الآثار التي صمدت أكثر من سبعة آلاف سنة في بلاد الرافدين.. ولأنهم كذلك وأيديهم في الجمر مباشرة حق لهم أن يعبروا بالأحذية ويرجموا بها رأس الأفعى ويهدونه ذكرى تدخل معه التاريخ من بابه الأسوأ. قالت قلة قليلة من أهل السياسة في العرق إن رجم الصحفي منتظر الزيدي للرئيس جورج بوش عمل هجمي ولا يعبر عن الأخلاق العربية، ونسي القوم أو تناسوا أن زيارة بوش إلى العراق كانت رمز الهمجية وقمة الوقاحة والسخرية من الآخرين، فبعد أن دمر الرجل العراق وأعاده عقودا إلى الوراء وتسبب في قتل مليون عراقي وتهجير ملايين آخرين؛ يأتي ليسدل الستار عن دوره في تلك المسرحية الدموية، ويختمها بمشهد تلك الاتفاقية الأمنية التي تحفظ للولايات المتحدة وحلفائها مصالح عسكرية وسياسية واقتصادية أخرى. سياسيون عراقيون أيدوا الاتفاقية وطبخوا بنودها في السر والعلن وصادقوا عليها عبر البرلمان، وجحافل إعلامية مؤيدة لهم باركت الاتفاقية وسوّقت لها طويلا، وفي المقابل ظلت الغالبية العظمى من أبناء الشعب العراقي ترفض تلك الاتفاقية وإن اختلفت التعبيرات والأساليب حتى جاء حذاء منتظر الزيدي ليمثل رأي الشعب كله، وكأنه يقول لجورج بوش إن اتفاقيته وزيارته لا تستحق أكثر من رمية حذاء.. وهكذا جاء الحذاء بالخبر اليقين وقذف بالحقيقة كاملة أمام بوش والعالم أجمع. قرابة ست سنوات من دعاوى الديمقراطية ودعاية التحرير وإعادة الإعمار والعهد الجديد والمستقبل المشرق الذي ينتظر العراق.. كل ذلك اختصره صحفي عراقي في لحظات معدودة حين كتب بحذائه فأسكت الألسنة عن التعبير وأوقف الأقلام عن الصرير.. كل تلك الإنجازات التي ظل جورج بوش يفتخر بها وينافح بها أمام خصومه لخّصها العراقيون الأحرار في فردتي حذاء ومشهد رمزي إلى أقصى الحدود.. لو اجتهد روائي في رسمه بالكلمات أو مسرحي في إخراجه لما وصل إلى إبداع الزيدي. شجب البعض ما قام به الزيدي، ووجب على كل عاقل أن يشجبه لو كان الوضع عاديا ولو كان الزائر غير بوش والحال غير الاحتلال.. شجبوا حميّة الزيدي وتجاهلوا أن عددا كبيرا من العراقيين والعرب وغيرهم من أحرار العالم ما كانوا ليتصرفوا دون تصرف الصحفي العراقي وحذائه قيد أنملة لو أتيحت لهم الفرصة وأمنوا العقاب والتنكيل وسوء المصير. لقد كان إلى جانب جورج بوش رئيس الوزراء العراقي نوري المالكي، ولا شك أن حجم الذعر والخجل الذي أصابه كبير جدا، كما أنه سيعاني الأمرّين وقد صار يعلم أن التاريخ قد حجز له مكانا يناسب دوره في قصة الحذاء العراقي المقاوم والمدافع عن الشرف والعرض والكرامة، ويعلم أيضا أن ذلك الحذاء سيدخل يوما المتحف الوطني العراقي، وسيدخل معه أيضا كل من تآمر مع الاحتلال، لكن من الباب الخلفي. تحية لمنتظر الزيدي الصحفي والوطني والبطل الغيور على بلده.. وسواء خرج سالما من أيدي قوات أعوان الاحتلال في العراق أم قضى نحبه هناك فقد أدى ذلك الشاب ما عليه.. وعلى النخب الواعية في الأمة أن تدرك أن البطولات الفردية وحدها لا تكفي حتى لو نفّست غضبا آنيا وردت بعض كرامة مهدورة.. على تلك النخب أن تدرك أن مفتاح القوة في عالم اليوم بيد الذين يملكون ثرواتهم وقراراتهم وتسوسهم حكومات راشدة أمينة تعرف بأدق التفاصيل ما لها ما عليها.