لو حاول العرب أن يزيلوا الآثار النفسية والثقافية، التي ترسبت خلال الثلاثين سنة الأخيرة في نفسية الجيل الجديد، الجيل الذي نشأ على أدبيات الأمر الواقع، والقبول بمسلسل العد التنازلي، الذي بدأ قبل كامب دافيد، والتسليم بأن ما حازته إسرائيل بالقوة والتآمر الدولي، ليس قابلا للمراجعة، ومسارعة الأنظمة العربية في "تطبيع" علاقتهم مع الكيان الصهيوني، لو حاول العرب إزالة كل ذلك، لتطلب الأمر منهم عقودا كثيرة، وجهودا مضنية وربما ظهور مقاومة لتلك المحاولة! وبدا واضحا أن إسرائيل راهنت على هذا البعد النفسي الثقافي، وسياستها تسير وفق مخطط يكتسح الفضاءات، سياسة تعتمد الترغيب والترهيب، وكلما تراجع العرب إلى خطوط خلفية، طمعا في تليين مواقف خصومهم، تقدمت إسرائيل خطوات أخرى، والثابت في كل تلك المسيرة أنها تأخذ ولا تعطي، تتقدم ولا تتراجع، وقد حققت فعلا بعض ما أرادت، فالجيل العربي الجديد نشأ على تعود هذا المشهد البائس، نقول هذا إلى ما قبل العدوان الإجرامي على غزة.. ولأن سنن الله لا تتغير في معاقبة الظالمين، فإن الظالم يحفر قبره بيديه إذا لم يجد من يردعه عن ظلمه، ويكون تدبيره في تدميره، كذلك فعلت فرنسا من قبل، عندما أقدمت على قتل قرابة نصف مليون جزائري في قالمة وخراطة وسطيف سنة 1945، كان المشهد يومئذ يبدو قاسيا ومروعا، ولكن القدر كان يصنع من المحنة منحة، ومن أشلاء الضحايا وقودا لمعركة فاصلة، وهذا مدعاة للتأمل بأن القضايا الكبرى لا يجب أن يتم التعامل معها بمنطق ما هو ماثل، فعجز جيل عن المقاومة، لا يبيح له مصادرة حق الأجيال الصاعدة فيه. إن إزالة آثار سياسات التطبيع، والمسارعة في طرح مشاريع تسوية، تخضعها إسرائيل دائما لمنطق توازن القوى، لم يكن ليتحقق بهذه السرعة، فعناقيد الفسفور وشظايا القذائف وهي تمزق لحم وعروق الشهداء في غزة، وتنثر الدماء في الحواري والأزقة، كانت تكتب بخط أحمر قان رسالة تلقاها العالم كله، ذلك الدم الساخن الزكي كان له وقع الممحاة السحرية، لقد محا كل ما سودته المحاضر من كذب ونفاق وتآمر وتخاذل، وعادت القضية الفلسطينية إلى الواجهة من جديد، صافية مصقولة، وزال الغبش والضباب، بعد أن كادت تزول كلمة فلسطين من القاموس. لقد تحول قطاع غزة، بمساحة الصغيرة وصمود أهله، إلى مصدر إلهام و رمز من رموز التحدي، وسيظل عبرة من عبر التاريخ التي سيتوقف أمامها البشر كثيرا، حينما يكتبوا عن هذه الحقبة من تاريخ العرب، وستقف الأجيال حاضرا ومستقبلا أمامها تستلهم الدروس والعبر، بل سيقف الجميع متأملا في حال هذا القطاع حتى قبل العدوان، فحكومة غزة المنتخبة، هي الحكومة الوحيدة في التاريخ الإنساني التي يعانى شعبها الجوع و الفقر الشديد، والأزمات الخانقة التي لا تتحملها طاقة البشر، و على الرغم من هذا، لم يثر الشعب عليها و لم يسقطها بل لا زال يحملها على الأعناق ! وتلك أولى العبر التي نستلهمها من غزة، فالشعوب تلتف حول قياداتها في ساعة العسرة وأيام المحن، شريطة أن تكون الحكومة مرتبطة ارتباطا وثيقا بشعبها، فليس الشعب وحده هو من يعانى الأزمات، ويتحمل المغارم، ففي غزة كان أعضاء الحكومة في مقدمة من يدفع ضريبة الصمود من قوته و دمه و أبنائه، وهذا هو سر صمود الجبهة الداخلية وتماسكها، بعد أن تنكر لها القاصي والداني. و طيلة أيام العدوان كان المشهد في غزة حضاريا، على الرغم من القرح والمصاب الذي حل بأهلها، كان التكافل والتضامن الحقيقي، ولم تنقل وسائل الإعلام أي حادث يشين بأهل القطاع، لم تتعرض قافلة مساعدات واحدة للسلب و النهب، وهذا خلافا للمعهود في التعامل مع قوافل المساعدات، التي تختفي في لحظات بل ربما اختفت السيارة وسائقها معا ! لقد أثبتت الشعب الفلسطيني أنه منجم لصناعة القيادات، لقد فكوا عقدة الزعيم الملهم والرجل الفريد الذي إن غاب غابت الأمة، فصفوف القيادات تتوالى خلال المعركة، عدة رؤوس لكنها تنظر في اتجاه واحد، اتجاه مصلحة الشعب وقبول التضحية من أجلها، ملامح الشموخ و نظرات العزة التي تلمع في عيونهم، كل ذلك يدل على استمرارية المسيرة، وهي كفاءات شابة إلا أنك تشعر أن فيها حكمة الشيوخ وحماس الشباب، لا يفقدون التوازن ولا يصخبون حيث يجب الهدوء، وهم القابضون على الجمر. هذه القيادات استطاعت أن تدير بكفاءة معركة نقل الرعب، وأثبتت لدعاة الخضوع لواقع القوة، وفرض قوة الواقع أن "صواريخ القسام، القنبلة البشرية، قناة الأقصى"، هذه الأسلحة التقليدية، كل واحد منها إعجاز فريد، فهي تثير الرعب الإسرائيلي و تثير حفيظة حلفائه رغم البساطة الشديدة في صنعها، ولكنها تستمد قوتها من إرادة صانعها، وتتحول إلى ميزان يحدث الرعب في العدو، هكذا أصبحت غزة في أيام أم الدنيا، فقد استقطبت الأنظار وشدت إليها الانتباه، وأعادت قضية فلسطين من جديد إلى دوائر الضوء في محيطاتها العربية والإسلامية والدولية.