هناك إجماع بين الخبراء حول الأسس الرئيسية في تقويم أداء النظم الصحية، وهي عبارة عن خطوط كبرى، ومبادئ كبرى مترابطة بينها، ومن خلالها ترصد نجاحات أو إخفاقات المنظومة الصحية، وقد تم تحديد مؤشرات ثلاثة تعتمد في ذلك التقويم، وأول هذه الشروط نجاعة المنظومة في عملية العلاج، وثانيها الفاعلية الاقتصادية، وثالثها العدالة في توزيع العلاج لطالبيه. واجهت المنظومة الصحية في الجزائر المستقلة، وضعا صعبا إذ غادر أغلب الأطباء الفرنسيين البلاد، غداة إعلان الاستقلال، وتتابع سيل الخروج مع سنوات الاستقلال الأولى، ولأن الإدارة الاستعمارية حالت دون تكوين أطباء جزائريين، إذ لم يكن عدد الأطباء من الجزائريين يتجاوز المائة طبيب، بعضهم ما يزال طالبا آنذاك، ففرنسا الاستعمارية كانت تبني الخدمات الصحية، وتوجد مؤسسات الاستشفاء، بحسب توزع المعمرين المدنيين، وفي بعض المناطق الصحراوية، أوجدت مستشفيات عسكرية هدفها خدمة جنودها. كان القليل من الجزائريين المحظوظين، يستطيع أن يستفيد من تلك الخدمات، ويتطلب منه أن يبذل جهدا في الحديث بلغة الطبيب الفرنسي، وهو ما نلمس آثاره إلى اليوم، حيث يلجأ المواطن للحديث بالفرنسية، ظنا منه أن الطبيب لا يفهم إلا بالفرنسية، لقد كان الشرط الثالث من شروط المنظومة الصحية غائبا وهو العدالة في توزيع العلاج، حيث ينعم به قلة من المعمرين في المدن الكبرى، ويحرم منه غالبية أهل البلاد الجزائريين. ذلك الإقصاء والتعسف، سنجد أثره في الفرار الذي اتخذته الحكومة، ونفذته اعتبارا من فاتح جانفي 1974، وهو قرار مجانية العلاج، وتضييق مجال نشاط القطاع الصحي الخاص، وابتداء من أواخر السبعينيات يلاحظ التطور السريع في عدد الخرجين، سواء من الأطباء أو شبه الطبيين، ورافق ذلك بناء الكثير من الوحدات الصحية القاعدية، وبعض المستشفيات، والسمة الأساسية لتلك المرحلة هو تحقيق أكبر قدر من توزيع الخدمات الصحية الأساسية، دون مراعاة للفاعلية من حيث النوعية، حينها لم يكن حساب التكاليف بالمعنى الاقتصادي، هاجسا أوليا في تصور صانع القرار، حيث كانت الأدوية تصرف مجانا، وكان الإنفاق بغير حساب إلى حد التبذير. مع بداية سنوات التسعينيات، لاحت نذر الأزمة الاقتصادية، ودخلت البلاد في تحولات عميقة، أهمها تحول الوجهة إلى نظام اقتصاد السوق، وبدا التفكير في إدخال إصلاحات على المنظومة الصحية، تتوافق مع التوجه الجديد، لكن ذلك التوجه اقتصر على التنفيس على النشاط الخاص، حيث بدأت تظهر المصحات الخاصة، الأمر الذي دفع بالكثير من الكفاءات الطبية إلى مغادرة القطاع العام، لكن أغلب ذلك النشاط تركز في المدن الكبرى، حيث إمكانية تحقيق الربح، وبدت مظاهر العجز على كثير من مصالح القطاع العام، وهنا عادت مشكلة العدالة في توزيع العلاج، فالعلاج بالقطاع الخاص غير متيسر للجميع. وطيلة تلك المرحلة، وما يزال، ظل القطاع العمومي يبتلع الميزانيات دون رقابة حقيقية، وتحول إلى مؤسسات تعمل وفق نظام بيروقراطي، تغلب عليه ذهنية قطاع خدمي عام، أكثر من قطاع يوفر العلاج وفق المنظور العلمي، وهو ما عبر عنه وزير المالية الأسبق عبد اللطيف بن آشنو بمرارة، في سنة 2005 حيث رأى أن ميزانية القطاع التي تصاعدت بنسبة مئة بالمائة (100%) في الفترة مابين 1999 و2005 إلا أن ثلثي تلك الميزانية يذهب لأجور المستخدمين، في ما تخصص عشرين بالمئة للأدوية وأقل من 15 بالمئة للتجهيز، وقال: " على الرغم من الإمكانات الهائلة، فإن المردود ضعيف والجودة غائبة" وأشار بالتحديد إلى قضايا مهمة منها: "ظروف استقبال واستشفاء المرضى سيئة، نقص الأدوية، وطوابير المرضى في انتظار الفحصوصات التكميلية". طبعا هذا بصفة عامة، أما إذا تعلق الأمر ببعض المناطق الداخلية والصحراوية، فإن المشهد أكثر قتامة وسوءا، فحتى بعد لجوء الوزارة إلى إجبارية الخدمة المدنية للأطباء الأخصائيين الجدد، فهذا الحل يبقى ظرفيا لأنه يتطلب تخرج دفعات كبيرة من الأطباء كل عام، وهو ما تحول دونه عقبات موضوعية، كغياب مصالح التأطير اللازمة، ومشكلة استيعاب الفائض الديمغرافي الطبي، فاليوم عدد البطالين في صفوف الأطباء تجاوز الألفين طبيب. إن التفكير في نظم بديلة لانتشار الكفاءات الطبية هو الحل الأمثل، خاصة في ما يتصل بالاختصاصات القاعدية، كالجراحة وطب النساء وطب الأطفال وجراحة العظام، بأن يكون نظام التحفيز معتبرا، فنظام التحفيز الحالي غير مقنع، لتوطين الأطباء في الجنوب والمناطق المحرومة، وللإبقاء على قوة القطاع العام بوصفه أحد معالم السيادة، ويمثل وجه ممارسة الدولة لواجبها في التكفل بمواطنيها، يجب مراجعة نظام الأجور وفق تعويضات ذات علاقة بالمجهود المبذول، فالمداومة الطبية لطبيب في اختصاص طبي، لا ينبغي أن تقارن بمداومة الجراحين. إن نظام التعاقد الذي يمثل الوجه الأبرز لإصلاحات المنظومة الصحية، يمكن أن يحقق متطلبات العدالة والنجاعة الاقتصادية، ويبقى الدور على التكوين الأصلي والمتواصل للنهوض بجانب نوعية العلاج، وهو ما يقتضي تحيين منظومة التكوين، والحد من الاعتماد على أعداد الخرجين، وإعطاء العناية اللازمة للنوعية، فالمراهنة على مستقبل على قواعد صلبة، أولى من تسيير ضغوطات الحاضر بارتجال..