تشير الإحصائيات المستقاة من مصادر أمنية وإعلامية أن عدد العمليات الإرهابية خلال رمضان هذه السنة قد تراجعت بشكل غير مسبوق وبلغت حدود قصوى لم يسبق تسجيلها منذ اندلاع مسلسل العنف الإرهابي في بداية تسعينيات القرن الماضي، فهناك إجماع على أن الاستقرار والأمن كانا سيدا الموقف خلال شهر الصيام، وهو ما يطرح عدة تساؤلات حول العوامل الرئيسية التي أدت إلى تقلص الاعتداءات الإرهابية، وهل الإرهاب كظاهرة يشهد فعلا حالة من الاضمحلال التدريجي وأن زوالها قد أضحى اقرب مما تصورته أكثر التحاليل السياسية والأمنية تفاؤلا. راهنت العديد من التوقعات التي سبقت الشهر الكريم، على عودة مسلسل الاعتداءات الإرهابية في الجزائر، بناءا على تحاليل تستند إلى الظروف الأمنية التي كانت عادة ما تسود شهر الصيام، باعتباره شهر تستغله الجماعات الإرهابية لزيادة نشاطاتها وارتكاب أفضع جرائمها اعتقادا من مدبري الإرهاب بأن شهر الرحمة هو الشهر المناسب لما يسمونه «جهادا»، ولو ضد المسلمين الأمنيين، لكن الذي حصل كان خلاف ذلك، بحيث تم تسجيل تراجعا غير مسبوق في عدد العمليات الإرهابية التي لامست المستوى الصفري إذا ما استثنيا بعض الاعتداءات التي نفذتها زمر الجماعة السلفية للدعوة والقتال التي تسمي نفسها « تنظيم القاعدة ببلاد المغرب الإسلامي » خاصة بوسط البلاد وتحديدا بالمنطقة الممتدة من شرق العاصمة وصولا إلى منطقة القبائل وبعض مناطق شرق الوطن كباتنة وتبسة وسكيكدة، علما أن العمليات القليلة التي نفذها الإرهابيون استهدفت قوات الجيش الوطني الشعبي عبر العبوات الناسفة أو الاغتيالات التي مست مقاومين وعناصر الحرس البلدي ومواطنين. التحسن الأمني الكبير وعودة الاستقرار بشكل غير مسبوق على كل جهات الوطن تم ملاحظته أيضا من خلال تنقلات المواطنين في كل أرجاء الوطن، وحركة الناس داخل المدن بما في ذلك المدن الكبيرة والأحياء السكنية التي كانت في السابق تشهد من حين لأخر نشاطات العناصر الإرهابية، ومثل هذا الوضع يطرح تساؤلات حول الأسباب الرئيسية التي ساهمت في تراجع حتى لا نقول أفول النشاط الإرهابي في رمضان هذه السنة، هل يمكن تفسير ذلك ببداية العد العكسي لظاهرة الإرهاب في الجزائر وبداية نهاية أو على الأقل تلاشي الإرهاب في الجزائر، أم يمكن تفسيره بالعمل الميداني الناجح الذي قامت وتقوم به قوات الجيش ومختلف أسلاك الأمن الأخرى، أم أن التحسن الكبير المسجل مرده إلى المسلسل السياسي السلمي الذي بدا يأتي أكله تدريجيا؟ الواقع أن كل العوامل المذكورة ساهمت في النتائج المحققة وفي الأمن والاستقرار الذي لاحظه وسجله أكثر المحللين تشاؤما، فالعمل الميداني الذي تقوم به مختلف الأسلاك الأمنية، سمح حتى قبل رمضان الأخير، ومنذ عدة أشهر بإفشال إستراتيجية التفجيرات الانتحارية التي شرعت فيها زمر عبد الملك درودكال، المكنى أبو مصعب عبد الودود، منذ نهاية 2006 وبداية 2007، تاريخ انضمام الجماعة السلفية رسميا إلى « تنظيم القاعدة»، ولا يمكن حصر النجاح الميداني لقوات الجيش والأمن في وقف حمام الدم الذي تسببت فيه العمليات التفجيرية المتسلسلة التي استهدفت خصوصا المدن الكبرى وعلى رأسها العاصمة، بل امتدت إلى محاصرة الزمر الإرهابية في معاقلها مما سمح بتحييد العديد من العناصر الإرهابية بما في ذلك عدد من الأمراء المقربين من الأمير الوطني للتنظيم الإرهابي وإلقاء القبض على عدد أخر، وتسليم عدد من الإرهابيين الخطرين أنفسهم لقوات الأمن، وسمح العمل الاستخباراتي الذي تحول إلى العمود الفقري للإستراتيجية الأمنية المعتمدة منذ حوالي سنتين من تحقيق نجاحات كبيرة ضد الزمر الإرهابية، ومن تفكيك العشرات من خلايا الرصد والإسناد التي تعتبر مصدر قوة الإرهابيين، فضلا عن قطع الإمدادات عن الإرهابيين ووقف عملية التجنيد التي ساهمت فيها عوامل أخرى سوف نأتي على ذكرها فيما بعد. ولا يمكن الحديث عن النجاحات الميدانية المحققة ضد الزمر الإرهابية من دون الالتفاتة نحو العمل الكبير الذي تم في الجنوب وحتى خارج الحدود، سواء تعلق الأمر بعمل أمني صرف أو بالتنسيق والعمل المشترك مع دول الجوار الجنوبي في منطقة الساحل الإفريقي باعتبارها عمق استراتيجي لتنظيم القاعدة ببلاد المغرب، ومصدر أموالها وسلاحها، فعلى الجانب الجزائري شرعت قوات الجيش مدعومة بمعلومات ثمينة في ضرب الطرق السرية لتجار السلاح والإرهابيين، وقد تم تحقيق العديد من أهداف هذه العمليات بالقضاء على العديد من العناصر الإرهابية التي كانت تنشط ضمن إمارة الصحراء التابعة لتنظيم القاعدة ببلاد المغرب، دون إغفال تسليم عدد من العناصر المسلحة الخطيرة أنفسهم لقوات الأمن مما قلص من قوة إمارة الصحراء التي تعتبر الممول الرئيس للتنظيم الإرهابي في شمال البلاد من السلاح وحتى من المال المحصل عن طريق الفدية التي يجنيها الإرهابيون عبر عمليات الاختطاف التي تستهدف السياح الغربيين، ثم إن التنسيق المتواصل بين الجزائر ودول الساحل الإفريقي (موريتانيا، مالي والنيجر) قد أعطى نتائج كبيرة جدا، على صعيد تضييق الخناق على نشاط العناصر الإرهابية أو على صعيد غلق الباب أمام التدخل الأجنبي في المنطقة. وما من شك أن الإستراتيجية الأمنية التي يتم تنفيذها منذ سنوات قد بدأت تأتي أكلها، والملاحظ أن النجاحات المحققة ليست بفضل العمل الميداني فقطن بل أيضا بفضل تنفيذ إستراتيجية سياسية سلمية موازية، ومواصلة خيار المصالحة، فترك أبواب التوبة مفتوحة أمام المسلحين لازال يستنزف صفوف الجماعالت الإرهابية، وأحسن دليل على ذلك موجة التوبة التي نسمع عنها من حين لأخر والتي تمس في الغالب عناصر قيادية لها وزنها في تنظيم درودكال، ثم إن الاستمرار في لتنفيذ المسلسل السلمي له أثاره السيكولوجية على التنظيم الإرهابيين بل إن البعض يرى بأن ما يخسره هذا التنظيم بفعل الخيار السلمي يفوق بكثير ما يخسره ميدانيا على أيدي قوات الأمن. وبطبيعة الحال لا يمكن حصر دور المسعى السلمي في الجرعات المتواصلة والتي جعلت العشرات من المسلحين يغادرون دروب الإرهاب، أو حتى في دور هذا المسار في تقليص حظوظ التنظيم الإرهابي في تجنيد عناصر إرهابية جديدة، فالمسار السلمي هو في الواقع إستراتيجية متكاملة للدولة تعتمد على قاعدة استعادة الفضاءات التي استولى عليها الفكر المتطرف باعتباره حاضنة الإرهاب، وعلى رأس هذه الفضاءات الفضاء الديني الذي يشهد ومنذ فترة طويلة نسبيا حركية لم يعرفها قط من قبل. فاستقبال العديد من الدعاة ومن مختلف المراجع الدينية المتواجدة في العالمين العربي والإسلامي أدى إلى تطوير خطاب دعوي حاصر الفكر المتطرف وفتح الباب أمام مراجعات ولو فردية داخل تنظيم القاعدة ببلاد المغرب الإسلامي، ولأول مرة ربما نلاحظ اندماج العلماء ومن مختلف الدول في مجهود رفض ما يقوم به الإرهابيون في الجزائر، وزالت بذلك التحفظات التي كانت قائمة في السابق، ومن جهة أخرى نلاحظ أيضا تلك المجهودات الجبارة التي تبذل بشكل متواصل لاستعادة الفضاء الديني من الإرهابيين من خلال تبني الدولة للدعوة و«الدروس المحمدية» التي تابعها الجزائريون طيلة شهر رمضان هي أحسن دليل على ذلك، فضلا عن تأطير المساجد والأئمة وإعطاء أهمية قصوى لحفظ القران ولدور الزوايا ...الخ مؤخرا فقط صرح الخبير السابق في مجال مكافحة الإرهاب بمديرية حماية الإقليم في المخابرات الفرنسية، « الدي أس تي » ، لويس كابريولي بأن المكافحة العسكرية والاستخباراتية والسياسية أفشلت الإرهاب في الجزائر، ومثل هذا الكلام له ما يسنده في الواقع، فكل التحاليل وجل التكهنات تؤكد بأن الإرهاب في الجزائر لم يعد يشكل خطرا على الدولة، وأن العمليات الإرهابية في تقلص مستمر، وهذا دليل على تلاشي قوة التنظيم الإرهابي، وربما بداية العد التنازلي لنهاية الإرهاب ليس كنشاط فقط وإنما كظاهرة في الجزائر، خاصة وأن مكافحة الظاهرة أمنيا وسياسيا تتم بالتوازي مع معالجة مخلفاتها النفسية والاجتماعية.