عادت منظمة العفو الدولية مجددا إلى النبش في ملفات المأساة الوطنية وانتقاد السياسات المتبعة من قبل السلطات في التعاطي مع الملف الأمني، ففي التقرير الأخير الذي أصدرته اتهمت هذه المنظمة الحقوقية السلطات في الجزائر بالسكوت عن الانتهاكات المرتكبة ضد حقوق الإنسان تحت غطاء مكافحة الإرهاب، وتعرضت بلهجة شديدة على ما أسمته بسياسية اللاعقاب التي كرستها سياسية المصالحة الوطنية لصالح عناصر الأمن والجماعات المسلحة، وهو ما جعل رئيس اللجنة الوطنية الاستشارية لحماية وترقية حقوق الإنسان مصطفى فاروق قسنطيني يؤكد ل "صوت الأحرار" أن "أمنستي" تخدم السيناريو الهادف على عرقلة خروج الجزائر من أزمة الإرهاب. جاء مضمون تقرير منظمة العفو الدولية الذي صدر مؤخرا قاسيا اتجاه الجزائر وركز بشكل لافت حول تداعيات المأساة الوطنية والوصفات السلمية التي اتبعتها السلطات لمعالجتها خاصة عبر سياسة الوئام المدني والمصالحة الوطنية، وهو ما يدفع إلى الاعتقاد أن هذه المنظمة الدولية الحقوقية تعمدت الرد على الخطاب الذي ألقاه مؤخرا الرئيس المترشح عبد العزيز بوتفليقة من ولاية بشار أين لم يستبعد اللجوء إلى إقرار العفو الشامل في حال استسلام كل العناصر الإرهابية. لقد ربطت منظمة العفو الدولية تقريرها هذه المرة بالاستحقاق الرئاسي القادم ودعت الرئيس الذي سينتخب في التاسع من أفريل القادم إلى الأخذ بعين الاعتبار وضعية من أسمتهم ب "ألاف الضحايا الذين خانتهم السلطات"، وأمعنت أمنستي في نفس السياق واضعة جملة من التوصيات أمام الرئيس المقبل تتعلق أغلبها بملف المفقودين وتتضمن هذه التوصيات "إلغاء النصوص القانونية التي تمح حصانة للمتسببين في الانتهاكات ضد حقوق الإنسان، والصهر على أن لا يمنح لأي كان حصانة من المتابعات القضائية، وتسليط الضوء على مصير ضحايا الفقدان القسري، والعمل على أن لا يتم اشتراط المساعدة المالية التي تمنح لعائلات المفقودين بتقديم شهادة الوفاة، ومراجعة القوانين التي تحد من حرية التعبير وتهدد بعقوبة الحبس كل من ينتقد تصرفات قوات الأمن والعمل على تمكين عائلات الضحايا من الحقيقة والعدالة والتعويض. وقالت المنظمة على لسان فيليب لوثر المدير بالنيابة لبرنامج الشرق الأوسط وشمال إفريقيا أن "رئيس الجمهورية المقبل يجب أن يستغل الفرصة لمواجهة ثقافة اللاعقاب التي تسود منذ التسعينات، ،فلا يمكن تصور مصالحة وطنية جدية إلا إذا كان على السلطات أن تسعى مجددا إلى إظهار الحقيقة بخصوص الجرائم السابقة والحاضرة وتمكين الضحايا من الحق والعدالة. وعبرت منظمة العفو الدولية في تقريرها الأخير عن انشغالها بشأن "غياب تحقيقات حول الانتهاكات ضد حقوق الإنسان الحاضرة أو السابقة، واللاعقاب الذي يتمتع به عناصر الأمن والمجموعات المسلحة" ، ولاحظت أمنستي أن "المجموعات المسلحة تقف وراء الاغتيالات التي تعرض لها العديد من المدنيين فضلا عن اختطافات، التعذيب و الاغتصاب، وتسببت قوات الأمن والمليشيات المسلحة من قبل الدولة في الفقدان القسري، وقتل أشخاص متهمين بالانتماء للمجموعات المسلحة، والاحتجاز في أماكن سرية وتعذيبهم البعض الأخر". واعتبرت أمنستي من جهة أخرى أن "إجراءات العفو التي اتخذها الرئيس بوتفليقة تحول دون حصول الضحايا وعائلاتهم على الحقيقة أو العدالة ولا على التعويض أو إعادة الاعتبار، فأغلب الجرائم المرتكبة خلال النزاع لم يتم التحقيق فيها، ولم يتم تحويل المتهمين بارتكابها على العدالة"، وقال فيليب لوثر أن "العفو العام الذي استفادت منه المجموعات المسلحة ثم أعوان الأمن تسبب في جراح جديدة للضحايا وأقاربهم.."، وضمن هذا السياق اتهمت أمنستي السلطات بعدم الاهتمام بالآثار المترتبة على الضحايا وعلى حقوق الإنسان من خلال رغبتها في تجاوز ما حصل، واعتبرت أن نصوص المصالحة تهدد الذين ينتقدون سياسة السلطة في تسيير بعقوبات قد تصل إلى خمسة سنوات حبس. واتهمت منظمة العفو الدولية السلطات باستعمال حجة تهديد الأمن ومكافحة الإرهاب لتبرير انتهاكات الحقوق الأساسية، واعتبرت بأن مديرية الاستعلامات والأمن لا تزال تحتجز أشخاصا في أماكن سرية، لمدة أسابيع وحتى شهور وممارسة التعذيب...، وأضافت أمنستي أن الاعتداءات التي يقوم بها "تنظيم القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي" لا يجب أن تشكل غطاءا للانتهاكات المرتكبة في إطار عمليات مكافحة الإرهاب ضد الحقوق الأساسية. وقال رئيس اللجنة الوطنية الاستشارية لترقية وحماية حقوق الإنسان، في اتصال أجرته معه "صوت الأحرار" أن الخطاب المعتمد من قبل منظمة العفو الدولية قديم تخلت عنه هذه المنظمة الحقوقية لفترة وسرعان ما عادت إليه، وأوضح مصطفى فاروق قسنطيني أن أمنستي تخدم سيناريو واضح يهدف إلى إعاقة خروج الجزائر من أزمتها الأمنية، واعتبر من جهة أخرى أن المصالحة الوطنية هي قرار اتخذته الجزائر بكل سيادة وبناءا على المعطيات المرتبطة بالأزمة التي تعاني منها، وهي خيار تبناه الشعب الجزائري بأغلبية ساحقة ومكن من معالجة أكثر من 95 بالمائة من الأزمة والمأساة الوطنية ومخلفاتها، وأكد في نفس السياق أنه لا يحق لأي كان أن يفرض على الجزائر حلولا من الخارج أو يحشر أنفه في قضاياها الداخلية. ويعتبر التقرير الأخير لمنظمة أمنستي من بين التقارير الشد قسوة بشأن الجزائر، إذ لا يستبعد أن تكون له خلفيات سياسية خاصة وأنه جاء في أوج الحملة الانتخابية وتناول الاستحقاق الرئاسي بنوع من الامتلاءات للرئيس المقبل الذي سوف ينتخبه الجزائريون، ويبدو أن النبش في ماسي مرحلة التسعينيات وتحريك ملف المفقودين رغم ما بذل من جهد لحل هذا الملف ومعالجة مخلفات الأزمة الأمنية سواء من خلال قانون الوئام المدني أو ميثاق السلم والمصالحة الوطنية والنصوص المجسدة له لها أبعاد أخرى قد تكون في شكل محاولات للضغط على الجزائر على خلفية بعض المواقف الدولية التي تبنتها مؤخرا.