لم يكن من قبيل الصدفة أن يختتم عبد العزيز بوتفليقة الحملة الانتخابية بالتركيز مجددا على الملف الأمني وتجديد تمسكه بخيار المصالحة الوطنية وتوجيه العديد من الرسائل التي تحمل في طياتها تلك القناعة التي لا تزال راسخة لدى الرئيس المترشح بأن طي ملف المأساة ومعالجة ظاهرة الإرهاب وتخليص البلد من الفتنة يمر حتما عبر الاستمرار في المسار السلمي، رغم ما أثارته بعض الخطابات التي ألقاها مؤخرا خاصة من تلمسان وتيارت لما فتح النار صوب من أسماهم بالمسؤولين عن المأساة. لقد أكد بوتفليقة في الخطاب الأخير الذي ألقاه الاثنين خلال التجمع الشعبي الذي أشرف عليه بالقاعة البيضاوية بالعاصمة أنه لن يلجأ إلى إقرار عفو شامل على المسلحين ولن يدخل أي تعديلات على نصوص ميثاق السلم والمصالحة الوطنية إلا بعد استشارة المواطنين، أي عبر استفتاء شعبي، وهي المرة الأولى التي يشير فيها بوتفليقة، بصفته رئيسا للجمهورية أو مرشحا للانتخابات الرئاسية إلى موضوع الاستفتاء في الملف الأمني، علما أن ميثاق السلم والمصالحة الوطنية الصادر سنة 2005 يعطي في مادته الأخيرة كل الصلاحيات لرئيس الجمهورية لاتخاذ كل ما يراه من إجراءات ضرورية لتفعيل المصالحة وتحقيق الأمن والاستقرار. وسبق لبوتفليقة أن تحدث عن تفعيل ميثاق السلم والمصالحة الوطنية، خاصة خلال أول اجتماع لمجلس الوزراء بعد التعديل الجزئي للدستور، وأمر الوزير الأول أحمد أويحيى بتفعيل دور اللجنة الوطنية المكلفة بتطبيق نصوص ميثاق السلم والمصالحة الوطنية، وانتقد بشدة النقائص التي لوحظت في التطبيق، وفهم الجميع أن بوتفليقة يمهد لاتخاذ قرارات تقضي بتوسيع إجراءات المصالحة إلى بعض الفئات التي أقصيت لسبب أو لآخر ، وقد جرى الحديث كما هو معروف عن إمكانية إدخال معتقلي الجنوب ضمن ضحايا المأساة الوطنية. وشكلت ترقية المصالحة الوطنية محورا أساسيا للحملة الانتخابية التي قادها بوتفليقة على مدار 21 يوما، ولم يخل أي خطاب من خطابته عن الإشارة إلى مسألة التزامه في حال فاز مرة أخرى بثقة الجزائريين بتفعيل المصالحة الوطنية والذهاب بها قدما إلى غاية القضاء النهائي على ظاهرة الإرهاب ومعالجة منابعه ومخلفاته المدمرة، وبطبيعة الحال كان هذا الخطاب السياسي منتظرا ومألوفا لدى مرشح قاد البلاد خلال عشرية كاملة بنفس الحماس وبنفس الإصرار على طي ملف الفتنة وبسط الأمن والاستقرار في كل ربوع الوطن، والغير المألوف ربما والذي أدى إلى بعض القراءات المتشائمة أو حتى المشككة هو ما جاء على لسان بوتفليقة في بعض التجمعات القليلة خاصة في التجمع الشعبي الذي نشطه بتلمسان. لقد فتح المرشح الحر للرئاسيات النار كما لم يفعل قط من قبل ضد التائبين وضد نشطاء الجبهة الإسلامية للإنقاذ المحظورة، واشترط على هؤلاء قبل الحديث عن العودة إلى أرض الوطن بالنسبة للذين لا يزالون في المنفى تقديم الاعتذار للشعب الجزائري، ودعا البقية منهم إلى الاعتراف بمسؤوليتهم في المأساة الوطنية، وفهم الجميع أن الرئيس يريد أن يطوي مسألة عودة الحزب المحل إلى النشاط السياسي تحت أي غطاء كان، وهو ما جعل بعض رموز الحزب المحل بما في ذلك مدني مزراق، المسؤول السابق على "جيش الإنقاذ" المنحل يرد بهجوم عنيف فسره المتتبعون كإعلان طلاق بين بوتفليقة ومجموعة الإنقاذيين الذين ساندوه في مسعاه السلمي. وبطبيعة الحال لم تكن تحاليل أو استنتاجات البعض صائبة فيما يتعلق باحتمال تراجع بوتفليقة في حال فاز في الرئاسيات المقبلة عن خيار المصالحة الوطنية، والدليل على ذلك أن الرجل عاد وبقوة في التجمعات التي تلت تجمع تلمسان ليرافع عن الخيار السلمي، بل ذهب إلى أبعد الحدود في تجمع بشار لما كشف عن إرادته في الذهاب إلى العفو الشامل، شريطة أن يسلم من بقي من العناصر الإرهابية أنفسهم للسلطات، علما أنه سبق لبوتفليقة كرئيس للجمهورية أن أكد في أكثر من مناسبة عن قناعته بخيار العفو الشامل لكنه كان يربط دوما بين مثل هذا القرار الجد حساس بالظروف السياسية وحتى بالتوازنات وبالجراح التي لا تزال تدمي ويقصد ضحايا الإرهاب الذين يرفض البعض منهم هذا الإجراء أو يتحفظون منه. وبات واضح من خلال العبارة التي أطلقها الرئيس المترشح في تجمع العاصمة حول الأخطاء الإستراتيجية التي ولدت العنف الإرهابي في الجزائر أن الرجل يحمل قناعة لم تزحزحها الظروف السياسية حول المسعى السلمي انطلاقا من موقفه المعروف بأن سياسة الكل أمني لم تنجح في إخراج البلاد من محنتها وربما أخرت عودة السلم ومددت من عمر الفتنة. وما من شك أن ربط بوتفليقة الإجراءات الجريئة التي يريد القيام بها لطي الملف الأمني بشكل نهائي بالاستفتاء الشعبي يخفي تلك الرغبة في إعطاء أي قرار في هذا الإطار تأشيرة الشرعية الشعبية بالنظر إلى حساسية المسألة سواء على الصعيد الداخلي أو الخارجي، فبوتفليقة يدرك جيدا بأن أي قرار يستند على هذه الرخصة الشعبية لا يمكن مواجهته أو رفضه أو الطعن فيه. لقد عجز باقي المنافسين الخمسة على كرسي الرئاسة مجارات بوتفليقة فيما يتصل بالمسعى السلمي، وهذه الحقيقة قد تصنع ذلك الفارق الكبير المتوقع بين الرئيس المترشح وباقي المتسابقين، ويعلم الجميع أن المصالحة الوطنية التي لا زالت تشكل أولوية في برنامج بوتفليقة للفوز بعهدة ثالثة، وقد أكد على ذلك في خطابه الأخير بالعاصمة لما قال "المصالحة الوطنية تبقى أولوية وطنية إلى غاية القضاء على بؤر التوتر وأوكار الدمار.."، هي أولوية أيضا لدى السواد الأعظم من الجزائريين الذين يتطلعون لمستقبل يعم فيه الأمن والاستقرار ، فهؤلاء يتمسكون برئيس للبلاد قادر على المضي قدما بالمسعى السلمي إلى غاية القضاء النهائي على الفتنة ومعالجة كل مخلفات سنوات الدم والدمار.