سقط فريق السلطة في لبنان في أول مواجهة حقيقية مع المعارضة، فوليد جنبلاط الذي كان يقول إذا جاءت الحرب فنحن لها قبع في بيته وطلب حماية الجيش والحريري اختبأ في قريطم لكن السؤال الكبير الذي طرح هو كيف يجرؤ فريق سياسي بهذا الضعف على اتخاذ قرارات خطيرة تستهدف صراحة المقاومة وأمنها؟ كل ما قيل عن دروس الماضي التي استوعبها اللبنانيون من الحرب الأهلية كان هراء، فقد عادت قعقعة السلاح مرة أخرى وقتل اللبنانيون بعضهم البعض والأرجح أن منهم من فعل ذلك خدمة لمصالح قوى أجنبية، والقادة السياسيون الذين ظلوا يحرضون الناس لأزيد من ثلاثة أعوام اختفوا عندما جد الجد ومات المغرر بهم من هذا الفريق وذاك، ورغم كل ما يقال عن مصلحة لبنان وعن التجاذب السياسي الداخلي فإن ما جرى في لبنان هو صراع يتجاوز هذا البلد الصغير. لم يكن أحد يشك في أن حزب الله قادر على السيطرة على لبنان برمته خلال فترة قصيرة قد لا تتعدى ثلاثة أيام ومع ذلك فقد استنفد فريق السلطة كل وسائل الاستفزاز حتى وصل إلى إعلان الحرب، ولا يمكن وصف قرار تنحية وفيق شقير وفتح ملف شبكة اتصالات حزب الله بغير هذا الوصف، وبدا واضحا أن الهدف كان دفع حزب الله إلى استعمال سلاحه للدفاع عن السلاح وقد حدث ذلك بالفعل ومنذ اللحظة الأولى قال أقطاب فريق السلطة ومن يحركونهم من العواصم القريبة والبعيدة أن الوضع تغير تماما الآن وأن سلاح المقاومة فقد شرعيته، ومن هنا بدأ طرح الشروط الجديدة لأي تسوية وهي مناقشة مستقبل سلاح حزب الله وهو موضوع تم تأجيله باتفاق الجميع وتم استثناؤه من شروط الحل التي اختزلت في انتخاب رئيس الجمهورية وتشكيل حكومة وحدة وطنية وتعديل القانون الانتخابي، والشروط الجديدة للتسوية هي في الأصل شروط لمنع التسوية ودفع الأزمة إلى مداها. ليس سرا أن السعودية ومصر والأردن هي التي تحرض فريق السلطة على إهدار كل فرص الحل التي لاحت في الأفق، وهي التي شوهت المبادرة العربية وجعلتها في خدمة هذا الفريق وهي التي حولت عمرو موسى إلى خصم للمعارضة ففقد بذلك صفة الحكم، وليس سرا أيضا أن هذه الدول تعمل بتنسيق كامل مع أمريكا وفرنسا، وليس سرا أيضا أن هذه الدول هي التي استعجلت أولمرت في جويلية 2006 من أجل أن يدمر حزب الله ويقضي عليه نهائيا حتى وإن كان التدمير طال كل شيء إلا بنية المقاومة. هذه هي الحقائق التي لا مفر من التعامل معها لفهم ما يجري الآن على الساحة اللبنانية، ومن خلالها يمكن نقرأ السلوك السعودي خلال الأزمة الأخيرة التي توفرت لها كل شروط الاستمرار والتعقيد في المستقبل المنظور. عندما قرر العرب أن يجتمعوا على مستوى وزراء الخارجية في القاهرة فكر المصريون في تحويل الاجتماع إلى مناسبة لإدانة حزب الله وقد أريد لهذا الاجتماع أن يكون تكرارا لما جرى في اجتماع القمة العربية الطارئ الذي عقد في مصر لدراسة الأزمة الناجمة عن دخول القوات العراقية إلى الكويت سنة 1990 وقد انتهت القمة العاصفة بتمرير بيان مترجم عن نسخة إنجليزية أرسلها الأمريكيون وحملت الجرعة المطلوبة من الإدانة والاستفزاز للعراق بالشكل الذي يغلق كل الأبواب في وجه أي حل ممكن، وما جرى في الاجتماع في الاجتماع الأخير كان تكرارا لهذه العملية فقد أراد المصريون تمرير قرار إدانة كان سيجعل الحل غير ممكن لكن معارضة بعض الدول حال دون ذلك وقد تم تعويض البيان بتشكيل لجنة وزارية عربية استبقتها السعودية بهجوم شرس على المعارضة وباتهام صريح لها بالولاء لإيران مع تحريض صريح على الفتنة المذهبية من خلال وسائل إعلام حملت لواء الدفاع عن السنة الذين يتعرضون للاضطهاد على أيدي الشيعة، وهنا أيضا تحضر المقارنة مع العراق بقوة. نفس الدول التي ساهمت في إسقاط العراق في أيدي المحتلين هي التي تقول اليوم أن شيعة لبنان يسيرون على طريق شيعة العراق متجاهلة حقيقة أن شيعة العراق ما كانوا ليفعلوا بوطنهم ما فعلوا لولا فتح أجواء وأراضي ومياه وخزائن دول مثل السعودية ومصر والأردن أمام الغزاة، والغريب أن الدفاع عن السنة كما تراه السعودية يمر حتما عبر دعم المشروع الأمريكي المترنح تحت ضربات المقاومة في فلسطين والعراق والعاجز عن اختراق لبنان إلى حد الساعة، بل إن الدفاع عن السنة برأي السعودية ومصر والأردن يمر عبر دعم الحكومة العميلة للاحتلال في بغداد عن طريق مسح الديون وإرسال السفراء إلى المنطقة الخضراء، كما أن الدفاع عن السنة يمر حتما عبر قتل الفلسطينيين في غزة بالجوع والعطش والظلام والأمراض المزمنة. لقد أصبح لبنان نقطة إنقاذ المشروع الأمريكي الصهيوني ومن خلاله يمكن أن تعميم الخضوع لإسرائيل تحت عنوان الاعتدال، وكل ما سيجري هناك لن يخرج عن هذا الإطار، فأمريكا ترى أن الطريق إلى دمشقوطهران وحتى غزة يمر حتما عبر بيروت، وأن الحرب القادمة في الشرق الأوسط لن تنجح ما دام حزب الله سالما معافى ولن يقوى أحد على إرهاق حزب الله وتشويه صورته كقوة مقاومة مثل الحرب الأهلية التي يحرض عليها المحور العربي الموالي لإسرائيل، فسحب السفراء من بيروت والضغط على فريق السلطة واستباق زيارة اللجنة الوزارية العربية بمؤتمرات صحافية تتحول إلى مهرجانات للسباب وتوزيع التهم مجانا هي كلها وسائل يتم استعمالها من أجل إجهاض كل الحلول المحتملة ودفع اللبنانيين إلى الخيار الأوحد وهو الاقتتال، فلا يمكن تفسير خروج سفير السعودية من بيروت مصطحبا أهله إلا كمؤشر على قرب الانفجار الكبير. الاتهامات الصريحة التي وجهها سعود الفيصل لإيران بالتدخل في لبنان جعلت الأهداف واضحة، ويبدو أن الرياض تثق أكثر من أي وقت مضى في قدرة أمريكا على تدمير إيران دون أن يصل شيء من الصداع إلى رؤوس الملوك والرؤساء كما حدث مع العراق ولذلك فهي الآن تلعب مع إيران اللعبة التي لعبتها مع العراق أول مرة لكن الصداع الذي تأخر خمس سنوات بدأ يأتي الآن من بغداد ومع طهران سيكون الأمر أسرع بكثير وأشد إيلاما، وأمريكا لم تعد تلك التي عرفها الآباء عندما اكتشفوا نعمة النفط أول مرة.