بعد هذه المحددات الرؤيوية العامة لمفهوم اليسار الديمقراطي المنشود، وفي سياق بناء برنامجه ونظام نظراته، فكيف يمكن لأحزاب وعناصر كانت تقدم نفسها ''يسار'' أن تذهب إلى التهاون مع السياسة الاستعمارية الأمريكية والنيوليبرالية الرأسمالية المتوحشة سياسياً واقتصادياً وعسكرياً، على حساب الوطن في العالمين العربي والمسلم، وواشنطن هي من أحضرت معها أنظمة المذاهب والطوائف وسكتها في دساتيرها، الأمر البارز في تحالفات ''الإسلام'' السياسي وواشنطن على اختلاف مذاهبه، على مساحة عشرات السنين من الحرب الباردة، وحتى 2001 بكارثة البرجين (الأمثلة كثيرة معلنة في العالمين العربي والمسلم، في أوروبا: البوسنة والهرسك، كوسوفو ••• الخ)، كيف يمكن تجاهل دور الأنظمة الطبقية العربية التي تحالفت داخل وخارج بلدانها منذ مطلع سبعينيات القرن العشرين مع أحزاب ومُنظري تسييس الدين وتديين السياسة ضد دعاة تحرير العقل، التحرر والتقدم إلى أمام، يساريين (ديمقراطيين ثوريين، ماركسيين، شيوعيين)، قوميين (تيارات)، ناصريين (تيارات)، ليبراليين (تيارات) ••• هذه الأنظمة التي تحصد الآن ما زرعت من ''عنف وإرهاب'' على يد حلفاء النصف الثاني من القرن العشرين، حيث لا يمكن لليسار الفعلي الانضمام إلى جوقة مُضطهدي شعوبهم مع الاحتلال، وهم يوصلون هذا الاضطهاد إلى النقطة التي تبرر سحقه واحتلاله، حيث تكون اللامساواة بلغت حدها الأقصى، حين يعطون لأنفسهم حق المشاركة في الولائم وحفلات فتات نهب الوطن التي ينظمها الاحتلال، عبر دورهم في خدمات ''القابلة'' وعلى خرائب الوطن، الذي يتصاعد منه الدخان، يرفعون نخب صحة الاحتلال• هل يمكن تسمية هذا العبيط ب ''اليسار''، النسخة المشوَّهة والمنحرفة عن مفاهيم اليسار، بالمزج غير المألوف والاعتباطي بين ما هو سامٍ وساقط، مرعب ومضحك، بطولي وتهريجي، إحدى سمات التراجيديا العربية (في العراق أحزاب الإسلام السياسي وشيوعيين تحت عباءة الغزو الأمريكي، وفي البلقان ''لنجدة'' البوسنة والهرسك، كوسوفو تحت سقف حراب ومدافع الأمريكان)، ولكن في أي مفصل يترتب على المهرج النطق بمقطع من الدراما ''البطولية''، فالأمر والقرار يترتب على المخرج الأمريكي وحده، وهكذا لا يمكن حصر هذه الأفكار والمفاهيم في كلٍ واحد• المحدد الآخر وهو يشكل محوراً بذاته، حيث من غير الممكن الحديث بدقة عن اليسار، دون استعراض مجالات العلاقات الدولية الراهن، والإفادة من تطوراته بغض النظر عن الأسباب، مع ملاحظة إرهاصاته التي تؤشر مستقبلاً إلى التعدد القطبي• وعلى سبيل الأمثلة التاريخية؛ نسأل: هل استفادت مصر من موقف واشنطن من العدوان الثلاثي عليها عام 1956؟ وبغض النظر عن أسباب واشنطن، وهل استفادت مصر من إنذار السوفييت (صواريخ بولغانين) للعدوان الثلاثي بالرحيل فورا عن مصر و قطاع غزة عام 1956 ؟ و كيف كان ذلك تكتيكا و استراتيجية ؟