للروائي العالمي جيمس جويس، وشرع من فوره في مطالعة ''وليمة الأكاذيب'' للروائي أمين الزاوي؟ فلأنه من المستحيل أن يقبل الدكتور أمين الزاوي المقارنة بمن هو أقل من جيمس جويس في مجال المقابلة بين روايتين تتعاطيان الهواجس نفسها، فإننا من باب الوفاء لأمنيات أمين الزاوي لن نحاوره - حول هذه الرواية - إلا عبر مقاييسه الإستثنائية نفسها، بحيث نشدد على السؤال: هل سيعرف القارئ بوضوح شديد ما إذا كانت رحلته بين صورة الفنان في شبابه، ووليمة الأكاذيب - بما أنهما تتناولان الموضوع نفسه - هي رحلة صعود أم رحلة تأرجح وسقوط حر إلى طعم الكوكاكولا الساخنة والأزهار البلاستيكية الباذخة وغير المجدية؟ فلنتوقف هنا قليلا، ولنقل إن هذا كان تمهيدا كاذبا على غرار وليمة الأكاذيب، لأننا سنترك جيمس جويس هنا، قائلين مع القارئ نفسه ربما أن عائلة أمين الزاوي، عائلته الأدبية الجزائرية والمغاربية أولى به وأجدر في مقارنة أكثر حميمية، خاصة أن شقيقات ''الوليمة'' شقيقات هذا (العرض حال حضاري) تبلغ الرقم ·· ترى كم من أخت لهذه الرواية في الأدب الجزائري؟ طباخو الوليمة ·· من (اللاز) إلى سقوط جدار برلين ربما لم يرغب الدكتور أمين الزاوي في أن يتجاوز بعمله الفني هذا، حدود الروبورتاج الروائي المميز، أو التقرير الحكائي شبه الشخصي، لأنه لن يكتب أبدا رواية تتموقع عن طيب خاطر في ذيل طابور روائي متخم أصلا· لم يبق فيه مكان لغير التلاميذ النجباء القادرين على الإستظهار الممتاز· لماذا أقص عليكم هذه الحكايات''؟! أجل، لماذا؟ لماذا يقص علينا أمين الزاوي أو بطله الكاذب المحشو بالكذب، حكايات لن نعرف أبدا ما إذا كانت صادقة في كذبها، أو كاذبة في صدقها، حكايات روتينية حول ما يمكن أن يفعله مراهق بحواسه الخمس عشر الجسدية منها و الروحية؟ شيء ما يجعلنا نقول إن هذه الرواية ما لم تكن (استراحة فنية) يلتقط فيها أمين الزاوي أنفاسه الإبداعية قبل غزوة فنية ابتكارية بكل معنى الكلمة، ما لم تكن فاصلا اجتراريا، نافلا كل النفول، فإنها على الأرجح بيان عن المواقع والمواقف، نوع من تجديد العهد (أنظروا يسارا أو حيث اليد المربوطة) وأزهار لهؤلاء وأحجار وأحذية· وأزهار لمن يستحق الأزهار، وأحجار وأحذية وإشارات بذيئة لمن يستحق الأحجار والأحذية والإشارات البذيئة، ولهذا فهم الجميع ولم يفهم أحد لماذا يقص علينا - ذلك الكاذب - تلك الحكايات عن عائلة مدنسة انقلب بعضها ضد بعض بقوة الشهوة الجامحة وقوة الدبابات الإنقلابية، إنه تصحيح آثار الإنقلاب العلاج النفسي الوحيد لعقدة عشق الأم والخالة· لقد قتلت الجزائر السياسية (أباها) وإن على كل البشرية التقدمية أن تتوجس خيفة من طريقتها في التكفير عن خطيئتها، فإما أزمة الضمير المعلنة التي يتم مناقشتها علنا أو المزيد من القرابين التكفيرية الدامية وغير المجدية، وإنه لمن المستحيل أن نحصل على الصواب في حالة الرموز التي يتداخل فيها الجنس مع السياسة، غير أنه يكاد أن يكون من المستحيل أيضا أن لا نرى بوضوح تلك الرغبة الحارقة لدى بطل الرواية في الإعلان عن أوصاف وعلامات الحبيبة التي يعشقها ويشتهيها من خلال الإسهاب في وصف جارتها التي يبغضها ويزدريها· ويمكن للبعض أن يقولوا أنهم تلقوا الرسالة خمسة على خمسة وعلى رأسهم رشيد بوجدرة الذي لم يتردد في الهتاف، إنها ''رواية تحبس الأنفاس، تشتغل ببراعة على تعرية القبيلة'' وآخرون كثيرون من المعنيين بالإشارات وغير المعنيين· والأغلب أن لا أحد معني ما دام الراوي يختم قصته بالتساؤل: لماذا أقص عليكم هذه الحكايات؟ ما لا يخشاه أمين الزاوي: يعبّر بطل الرواية بمطلق الحرية عما يحبه وما لا يحبه، وعما يجذبه وما ينفره، فإذا به الراوي نفسه يتحدث بنفس الوضوح الموارب عما يخشاه وما لا يخشاه· فبملاحظة خارطة المنبه والإستجابة، الإنجذاب والنفور، الإستحسان والإستقباح، نعرف أن الراوي علاوة على كونه لا يخشى إيقاظ ''السبعة أهل الكهف وكلهبم'' لا يخشى أعمدة العائلة المقدسة كلها، ابتداء من الأم والأربع عشرة خالة وعمة، وليس انتهاء بالعم الخائن والخالة الفاجرة (طبعا بافتراض أن هذه الرموز السياسية والحضارية شفافة بما يكفي وزيادة) كماأن نفس هذا الراوي لا يعبأ بكل المدرسة الشرقية، المصرية، العربية، مجسدة في شخص ( المعلم المصري) الذي يظهر في الرواية مبشرا بأفكار( حسن البنا) وأحلام تعريب العالم، بل تعريب الكون بأكمله مادام هذا المعلم المنفر أشد التنفير، يزعم أن العربية هي لغة الله ولغة أهل الجنة· تلك مدرسة مضجرة لا يخشاها الزاوي كما لا يخشى أمواج القبح والوساخة والتخلف، والتي تزداد شناعة كلما راح الزاوي يقارنها بشرفات المنازل الفرنسية تلك الشرفات اللطيفة، النظيفة، اللامعة، الخضراء المزهرة، المعطرة طول أيام السنة، لا يماثلها في الروعة إلا خط المعلم الفرنسي ورشاقته وجماله، مقارنة بكل ثقل دم وثقل أفكار المعلم المصري الذي ''جاؤوا به'' لتعريب الجزائر حديثة الإستقلال، لا، لا يخشى الراوي رموز القبح والوساخة والتخلف كما لا يخشى الإستعراب السياسي، وطنيا وقوميا، كما يتجسد في هواري بومدين وجمال عبد الناصر، سواء بسواء· كل ذلك الإستعراب العنتري العقيم الذي يولد عبد البطل حلما جنسيا يشاطر فيه (غولدا مائير) سرير أحلامها التوسعية كلها، نكاية في العولمة العربية وهكذا، وفي غمرة الصدق الكاذب، والكذب الصادق، ومهما بدا بطل الرواية تائها في الحدود بين ذاكرته وخياله، إلا أنه ليس تائها على الإطلاق بين قلبه وعقله وكل تجاذبات الأفكارو المواقع والأندية والأندية المضادة· أخيرا، إن رواية ''وليمة الأكاذيب'' حتى دون تأكيد نجاحها أو فشلها، ليست بالقطع أكبر كذبة ابتلعها الأدب الجزائري الحديث·