الرواية أشبه ما تكون برمال متحركة، على حد قول الباحث التونسي بوشوشة بن جمعة، لكنّها رمال لا تغوص فيها قدما الإنسان، بل إنّه يستطيع السير فوقها على غرار مشية المسيح عليه السلام على سطح الماء دون أن يهبط إلى القاع. وسواء أعالجت الرواية موضوع الفروسية والشطار مثلما كان الشأن عليه في العصر الوسيط، أم تطرقت للمطاردات البوليسية والجوانب النفسية والاجتماعية، أم تلوّنت بالواقعية السحرية على حد ما يقول به نقاد الأدب وواصفوه، أو على حد ما يراه مؤرخوه، فإنّها تظل عجينة طيعة مطواعة، ويروقها أن تتخذ جميع الهويات الممكنة منذ أن أصدر سرفانتس روايته (دون كيشوت) في عام 1605. ومعنى ذلك كله أنّها شكل أدبي رحب الصدر حقا وصدقا، ومتمرد على جميع التوصيفات في الوقت نفسه. وتاريخ الأدب في القرن العشرين وتطور المجتمعات الإنسانية يقدمان البرهان على ذلك: مارسيل بروست وروايته النهرية (البحث عن الزمن الضائع)، روجي مارتان ديحار وملحمته الاجتماعية (آل تيبو)، جيمس جويس وفرجينيا وولف في روايتهما التي يغوصان فيها في عالم العقل الباطن، إرنست همنغواي وتهويماته في عالم المهمشين والحرب الأهلية الإسبانية وعالم البحر، يوكيو ميشيما ورباعيته (بحرالخصوبة)، إمبرتو إيكو وعوالمه الحافلة بالمعلومات التاريخية والرمزية والدينية، جارسيا ماركيز وشخصياته المفعمة بالمشاعر الحية التي لا يكاد العقل يصدقها، محمد ديب الجزائري وثلاثيته الشهيرة دون أن ننسى كبار الروائيين الروس خلال العهدين القيصري والبلشفي- في هذه الروايات كلها- يتّخذ كلّ شيء مكانه داخل هذا الشكل الفني الذي قلب الأمور رأسا على عقب في مضمار الكتابة وتقنياتها منذ بروز ما يسمى بمجرة غوتنبرغ، أي المطبعة عام 1453. بل إن كتّاب العالم الثالث أنفسهم سارعوا إلى تبني هذا الشكل الأدبي دون أن يعيروا بالا للشطحات التنظيرية، ونافسوا عن جدارة واستحقاق كتّاب العالم الغربي بأن قدموا تحفا فنية راقية في هذا المضمار. لقد برهنت الرواية طيلة أربعة قرون على أنّها فن يتمرد في كل مرة على جميع التوصيفات، أو على الأقل، على تلك التي يزعم أصحابها أنّه بالإمكان وضعها في هذه الخانة أو تلك. وعليه، علينا أن نتساءل الآن: ألم يخطئ الناقد الماركسي جورج لوكاتش حين قال إن هذا الشكل الأدبي لا يمكن أن يولد وينمو ويترعرع إلا في مجتمع بورجوازي؟ والرواية، على عكس الشكل الملحمي الذي كان وقفا على المجتمعات البطولية لمدة معينة، استطاعت منذ نشأتها أن تضع في حوزتها مختلف المظاهر الحياتية، واستحوذت على الحراك الاجتماعي والمادي والكوني في آن واحد. ولما كانت بطبيعتها فنا أكولا لا يعرف ما الشبع، فإنها لم تكتف بأن تكون وعاءً لحكاية بسيطة يمكن أن تروى حول موقد دافئ في عز البرد. بل إنّ القارئ يجد نفسه أمام ما يشبه مجرة في عز الفوران، ومن ثمّ في عز النشوء في أجواز الفضاء، أي في تمدد دائم بالمعنى الفيزيائي. وهاهو الروائي في عالم اليوم، وبحكم الزخم الذي يميّز هذا الشكل الأدبي في كل مكان، يبدو لنا وكأنه باحث يدخل مختبرا تكون فيه جميع الاكتشافات والتجارب التعبيرية أمرا ممكنا. ولذلك ينبغي الاعتراف بأنّ الروائيين على الرغم من نرجسيتهم لم يزعموا في يوم من الأيام أن الرواية من حيث هي رواية تمثل نهاية الأدب على غرار ما قال به بعض الفلاسفة عن نهاية التاريخ. وهذه خصلة تحسب لهم لا سيما وأن الأمر في هذا النطاق يدور حول (الخطر الذي يتجرأ على كل شيء)، وفقا لما قاله الشاعر الألماني ريني ماريا ريلكه. ووفقا لهذا المنظور، ليس هناك شك حسب رأيي في أنّ فن الرواية سيرينا العجب العجاب في المستقبل.