لست هاوي كرة قدم ولا من محبيها، لأني أعتبرها لعبة عنيفة بشكل ظريف وجميل، وما هي في الحقيقة إلا من بقايا الرياضات القديمة التي كانت على شكل صراع شخصين حتى يصرع أحدهما الآخر، ولكنها طورت في شكلها وحجمها لتصبح أكثر إنسانية وجمالا برغم جذورها العدوانية التي تطفح في كل مرة على كل الملاعب، وتتخذ أبعادا تاريخية وسياسية وعرقية• ولكن لما يتعلق الأمر بالفريق الوطني فإن أنفاسي تنحبس وفؤادي يتحرك في انفراجات وانقباضات، وما يتبع ذلك من توترات وانفعالات• مقابلة الجزائر مصر كنت غاية في الإثارة ومسلسل بإخراج رائع ومسرحية أُتقن فيها الدور من جميع الممثلين من الطرف المصري، كأننا نشاهد سينما مصرية بعينها، لكن النصر كان حليف الفريق الوطني بأحادية جميلة وقاتلة من طرف اللاعب المتألق عنتر يحيى، كما أبعد الحارس شاوشي الكثير من الكرات الخطيرة• كل هذا شيء جميل والنصر أجمل.. الفرحة كانت باسم الشعب الذي نخره اليأس والقنوط والأزمة الإجتماعية والإقتصادية مع برود سياسي فقد كل أوراقه، لتعيد إليه كرة مطاطية تنط فوق الملعب بحركات رياضية وفنيات جمالية وعمل جماعي أبدع فيه الإنسان وتفنن. ولكن ما آلمني أكثر أن هذه الكرة المطاطية سحرها وبريقها وجوائزها من المال والذهب أصبحت تشحن فيها جماهير بكاملها في حرب سيكولوجية بعضها وصلت حد القذارة، حين تضرب قوانين الضيافة واللياقة والإحترام عرض الحائط ويضرب فريقنا الوطني وهو خارج لتوه من المطار إلي الفندق بالحجارة والطوب فتدمي رؤوس اللاعبين والمسؤولين أمام أنظار الأمن المصري لتهييج وإثارة أعصاب اللاعبين وإحداث حالة صدمة نفسية تبقى تطارده في وعيه الباطني وتجعله يتخيل أن الحجارة تسقط على رأسه من كل مكان. لم تنته المسألة هنا ليتفاجأ الفريق بعملية استفزاز وابتزاز والتعكير عليه جو الهدوء والنوم داخل الفندق ليفقد راحة البال وسط الهرج والمرج والدف والطرب والرقص واللهو والصرخات والضجيج، والمفاجأة الكبرى حين ذهب الفريق لإجراء الحصص التدريبية فتزج بهم الحافلة في شوارع وأزقة وزحمة القاهرة وسط دبيب الناس وزمورات السيارات الغير منقطعة، حتى الجمهور الذي ذهب ليساند الفريق الوطني تعرض للإبتزاز والتفتيش فلم تسلم حتى النساء الحوامل. لم ينته الأمر هنا، فالفضائيات راحت تشن علينا حربا شعواء بغرض التقزيم والإحباط والإطاحة بشعب ولد من رحم الثورة وواجه جحيم الإرهاب وفك طلاسمه الغريبة والعجيبة، فلم يعد معنى لفلسفة الترهيب وكسر الدفاعات السيكولوجية.. فلم تفلح وسائل إعلامهم في نفخ روح التعالي والتفوق والترهيب إلا في تأجيج جمهورهم وجعله غولا كاسرا يرتكب جريمة العنف في عقر داره، بعدما خرجوا آمنين سالمين منهزمين من ديارنا.. لم يتحملوا الهزيمة فدبروا حيلة تنقذهم من السقوط، فمكروا، ولكن ''الله خير الماكرين''، برغم حالة التعب وحالة الإحباط والصدمة العنيفة قاوم فريقنا الوطني ببسالة وأدى دورا رائعا في ستاد القاهرة• أدركت السلطات الجزائرية الكمين الإرهابي الذي وقع فيه الفريق الوطني، ولامتصاص الغضب الشعبي داخل الوطن نتيجة الإهانة والإذلال الذي تعرض له الفريق والجمهور الجزائري على التراب المصري، وبحكم حنكة سياسية تم إخراج تلك الشحنة من الغضب إلى أرض السودان المضيافة.. لتتحول إلى قرار دعم وسند وتحرير للفريق الوطني من صدمة القاهرة التي تورطت فيها أطراف مصرية من أعلى المستويات وبتخطيط محكم ومضبوط ومدروس في مخابر الحروب السيكولوجية، فحط على مطار الخرطوم أكثر من 15 ألف ماصر عبر جسر جوي استخدمت فيه أكثر من 40 طائرة في ظرف 3 أيام، فكانت الصدمة المضادة التي حطمت كل الحسابات المصرية، فمثل الأنصار الجزائريون أحسن تمثيل وكانوا بمثابة الدرع الواقي والسند المعنوي والبسيكولوجي والطريق إلى النصر الكبير. كما زادت حفاوة الإستقبال السوداني الذي اقتسم مع الجزائريين الرغيف والمبيت ضربة قاصمة للغرور والمكر المصري. وجرت المقابلة في أحسن الأجواء وأجمل الترتيبات، حيث أحس الفريق الوطني أنه في عقر داره وهو يسمع زغاريد النساء الجزائريات تصدح في سماء المريخ وتزيد من عزيمة اللاعبين وتشحن هممهم، وبقيت الراية الوطنية تملأ الملعب عالية مرتفعة.. وجاء النصر الثمين بهدف وحيد وقاتل بعد حرب الكراهية القذرة• عرفت جزائر الثورة والثوار كيف تقلبها إلى نصر عظيم، هزّ وزعزع الجزائر من أقصاها إلى أقصاها ومن أدناها إلى أعلاها، وعادت الفرحة والبسمة لشعب مصدوم ومأزوم نفسيا لكنه شجاع وباسل ومدافع عن الكرامة الوطنية.. فلنذهب إلى مونديال جنوب إفريقيا رافعين الرؤوس والأعلام تاركين الحرب الكلامية التي لا معنى لها لأهلها. عجبا لما تفعله الكرة المستديرة! لكن النصر كان بالنسبة لنا ''شيعة وشبعة''•