عندما استفاق المنتخب الكروي الجزائري من غفوته وأدى مباراته الأخيرة بقوة ورجولة وحماس، أعاد الأمل لملايين الجزائريين، وأحيا جذوة من الطموح الكروي الذي انطلق مع بداية التكوين الرياضي في فترة السبعينيات قبل أن يخبو مع ما خبا من شموع هذا البلد في فترة جراحنا بعاثة "الأخضر الجبار"، أو صحوة "مقاتلي الصحراء"، لم تكن هدية سماوية لغير سبب ولكنها كانت نتاجا طبيعيا لمقدمات منطقية، فهناك التخطيط السليم لهيئة السيد محمد راوراوة، والانتقاء السليم ل"الشيخ" رابح سعدان، والإلتزام الجدي لكل لاعبي منتخبنا الوطني الذين أصبحوا المثل الأعلى لفضائيات العالم العربي لناحية حب الوطن والتضحية من أجله، وقبل ذلك وبعده هناك الوفاء الأسطوري للجمهور الجزائري الذي لا يعرف الكسل ولا يعترف بالإستسلام ويرفض أي نتيجة غير مشرّفة.. وفاء مثلته لقطات مباراتنا الأخيرة مع سلوفينيا التي فاجأتنا بهدف عكس سير اللعب، لم يثر الجمهور، ولا شتم المنتخب، وإنما صرخ الملعب كله بصوت واحد "وان تو ثري ..فيفا لالجيري"، فرفع الروح المعنوية ل"مقاتلي الصحراء" إلى السماء وجعلهم يعودون في النتيجة بقوة ضد انجلترا وضد الظرف التحكيمي، وضد الأعصاب التي راحت تتفلّت يمينا وشمالا. حصيلة هذا كله كانت فرحة عارمة في كل أنحاء البلد، واستعادة سريعة للبسمة، وارتفاع تاريخي في مبيعات الراية الوطنية و أقمصة "الأخضر الجبار" والأغاني الوطنية الحماسية.. دخلت الجزائر موسم فرح لم ينته، وإن شاء الله لن ينتهي أبدا.. موسم لم تكن لتعيشه لولا المقدمات المنطقية التي توصل بها منتخبنا للصحوة والإندفاع إلى النجاح بكل قوة. شاهدنا في الموضوع أن النجاح في هذا البلد ممكن، وأن طبيعة أهله - على عكس ما يعتقد كثيرون - هي الكفاح في ميادين العمل كافة والإصرار على افتكاك التميز، والرغبة في تحقيق الظفر بكل ألوانه، والقدرة على مقاومة الضغوط ومعاندة الظروف أيا ما كانت و أينما كانت.. شاهدنا أننا أمام مرحلة استرجعنا فيها ثقتنا بمجهودنا وبأنفسنا وبمواطننا المقيم في بلده أو المغترب عنه..فكل هؤلاء اللاعبين من محليّين ومغتربين صنعوا فرحتنا وردوا الربيع إلى شفاهنا وعيوننا. وإذا كان النجاح ممكنا ومقدماته معقولة، فلماذا لا نعمم هذه الوصفة السحرية في كل ميادين العمل العام بالجزائر، لماذا لا نستخدم "التحضير الجدي" الذي استعمله راوراوة والانتقاء السليم الذي سلكه "الشيخ" رابح سعدان، و الأداء الرجولي الذي شرفنا به أعضاء "الكتيبة الخضراء"؟! لماذا لا تكون هذه الثلاثية السحرية قاعدتنا وشعارنا في كل مجال، وخصوصا في المجال الثقافي الذي لن نبالغ إن قلنا أنه سيكون حصانا رابحا للغاية لو راهنا عليه بالشكل الكافي ومنحناه ثقتنا بالقدر اللازم. لدينا من ثروات الثقافة ما لا يجتمع لقارات بأسرها بكل تواضع ولدينا من ثروات الإطارات الوطنية ما لا تحلم به دول كبرى، ولدينا من مساحات العمل ما لا ينتهي.. فلم لا نحول كذل ذلك لحصان يمضي بقوة بقافلة التشغيل ومسيرة التطور وسيناريو الصحوة الوطنية. نستطيع أن نكون عاصمة عالمية للثقافة في ظرف سنوات قليلة إن عزمنا على ذلك، وتوفرت لنا وسائله، ولا يحتاج ذلك إلا ل: التحضير الجدي أساس هذا التحضير بناء الأرضية القانونية الحديثة لكل نشاط ثقافي وفني، وتحديثها بشكل دوري يجعلها على أرقى مستوى ممكن، وكذا تحضير الإطار البشري بالإستثمار في التكوين. ويشمل هذا التحضير ميادين تسيير المسارح ودور السينما والمواقع الأثرية والمساحات العامة ذات الاستخدام الثقافي وسياسة المهرجانات الوطنية والمعارض الثقافية بكل أنواعها، وإن قال قائل إننا قطعنا شوطا ممتازا في كل ذلك فجوابه: وهل علينا الإكتفاء بما قطعناه؟ الإنتقاء السليم وهو أمر مطلوب على مستوى الإطارات التي تدير العمل الثقافي العام، إذ يجب أن ننتهي إلى غير رجعة من حكاية المفاضلة بين تنصيب المثقفين أو تثقيف الإداريين. إنه نقاش مضى زمنه، فالإدارة الثقافية صناعة قائمة بذاتها ولها جامعاتها المعروفة، ولن نعجز عن إيجاد بديل وطني يصنع مسؤولا ثقافيا على درجة ممتازة من الكفاءة. كما يجب علينا انتقاء أفضل برامح التدريب والتكوين لكل المرتبطين بالعمل الثقافي من طلبة الفنون الجميلة إلى طلبة المسرح وطلبة الإخراج و طلبة النقد وطلبة التسويق، والإنتهاء بشكل حاسم من فكرة استيراد البرامج الجاهزة، وذلك عبر التفكير في برنامج تدريبي وطني تنجزه كوادرنا الوطني ويكون ملائما لحالتنا الثقافية والاجتماعية، وقادرا على إطلاق أفضل ما لدى شبابنا من مواهب. ويجب أن نمتلك شجاعة العمل الجدي على تجريد إدارتنا الثقافية من رواسب المحسوبية، وإرث الزمالة القديمة، وأفلام رجال الثقة وأصحاب الحاشية وحاشية الحاشية.. فلن يصلح حال هذا البلد بمثل تلك البضاعة أبدا. الأداء الرجولي وإن استغرب أحد منكم إقحام الرجولة في ميدان الثقافة، فلنقل له إن ثقافتنا قائمة كلها على مفهوم الرجولة ولنا في مواقف الآباء المؤسسين لثقافتنا الوطنية خير دليل على ذلك من أيام علماء مملكة نوميديا ومبدع "الحمار الذهبي"، إلى مراحل الثورة وأدبائها العظام كمفدي وحوحو وبودية، إلى الاستقلال برموزه الكبيرة من مجوبي إلى جيلالي اليابس. إن الرجولة الثقافية لا تعني شيئا سوى العمل بكل قوة لرفعة هذا البلد، وفي هذا الإطار علينا أن نتخلص بسرعة من عقليات تخلفت بنا كثيرا، كطرح فكرة الموازنة بين التدخل الخاص والعمومي في العمل الثقافي، إنه نقاش مضحك للغاية ويبدو لي أننا بين ضمن دول قليلة لا زالت ترحب به! إن العمل الثقافي لا يعترف بهكذا تقسيم، وعلينا أن نتذكر دوما أن القطاع الخاص في الجزائر ليس مشكلا إلا من مواطنين جزائريين قد يملك كثير منهم من الغيرة على ثقافتنا ما لا تملكه طائفة من مسؤولي مكاتبنا الثقافية! علينا أن نعيد استرجاع مبدأ التعاون بين الخاص و العام في الثقافة ونتيح للكل الوطني الإسهام في مسيرتنا إلى الأمام، ونحول العمل المهرجاني والاحتفالي وعمليات النشر الثقافي مكتوبا ومسموعا ومرئيا إلى نشاط منتج لا يقوم على مبدأ الصرف العام فحسب ولكن على الشراكة، ولنفكر جميعا في كيفية تحويل مهرجاناتنا إلى نشاط صديق للخزينة العامة لا نشاط مستنزف لها، ونفس الشيء مع المواقع الثقافية والأثرية وبيوت عشرات الكتاب الجزائريين ذوي الصيت العالمي.. إسبانيا تستثمر في بيت سيرفانتاس فما الذي يمنعنا من الاستثمار في بيوت أهدت للعلم مالك بن نبي وأحلام مستغانمي وآسيا جبار ومحمد راسم ..الخ. معاك يالخضرا إن استطعنا أن نسحب الشروط التي توفرت ل"الأخضر الجبار" ونطبقها في كل ميادين نشاطنا العام، فسنكون على موعد مع انبعاث كبير وعلى موعد مع ذات الحب الذي يعصف بقلوب شبابنا تجاه "مقاتلي الصحراء".. وسننهي كوابيس "الحراڤة" دون تكاليف أمنية جديدة وسنخفض نسب الإنتحار وفوضى الشارع. وإن لم نستطع أو لم نرغب فسيكتب عنا الجيل اللاحق تتمة الأيقونة السينمائية الخالدة "واقع سنوات الجمر".