تمر أربعينية الشاعر عبد القادر العرفي، الذي رحل في ظروف تراجيدية، تؤكد مرة أخرى هشاشة الشعراء وعزلتهم، وأكثر من ذلك القدر الذي ينتظرهم لأن العالم آلى ألاّ يتسع لهم .. لقد كان عبد القادر من طينة الشعراء النادرين الذين تعاطوا مع الشعر بامتلاء وحساسية كبيرة لا يمكن أن يتحمّلها إنسان، وكان من الصعب أن يستمر في الحياة بروح الشاعر وسط واقع ضاغط على أكثر من صعيد، ووسط آلة اجتماعية ساحقة لكل إحساس مرهف أو مشاعر تتوق إلى معانقة الجمال والمعنى، بعيدا عن استلاب العصر وطغيان المادة ومقتضياتها وشروطها. كان مثقفا من الطراز الكبير، ولا أكاد أعرف شاعرا مطلعا على الأدب الإنجليزي أكثر منه، بل لقد تخصص في شعر الشاعر الأمريكي ت.س. إليوت حتى صار ملمًّا بأدبه، وله معرفة عميقة بكل ما يتصل به، وقد أنجز مذكرة تخرجه في اللغة الإنجليزية من جامعة قسنطينة عنه. وبفضله أتيح لي أن أطلع على "الأرض الخراب" و"الرباعيات" و"الرجال الجوف" وأربعاء الرماد"وغيرها من قصائد إيليوت مباشرة عن لغتها الأصلية التي كان عبد القادر يتقنها ويتذوقها بشكل منقطع النظير. ويرى في إليوت الشاعر العبقري الذي استطاع فعلا أن يعبّر عن القلق الوجودي الذي عاشه في مفترق الحياة .. إجادته للغات الثلاث العربية والفرنسية والإنجليزية، جعلت منه قارئا مستفيضا، وسمحت له بالكتابة بهذه اللغات وإنجاز الكثير من الترجمات المهمة لشعراء الإنجليزية، فضلا عمّا أبدعه من قصائد تحيل على شاعر كبير يتميز بلغة مكثفة وشاعرية متوترة تذهب بالحالة الشعرية إلى أقصاها .. يمثل عبد القادر أنموذج شعر الهامش الذي بقي محافظا على نقائه الشعري وصفائه، بمنأى عن تجاذبات المشهد الشعري وتناقضاته الإنسانية الصادمة، وبالنتيجة لم يتح له أن ينشر غير القليل من نصوصه الشعرية أو ترجماته، التي سيكون على عاتق أصدقائه ومحبيه واجب نشرها وإضاءتها وفاء لذاكرته، وستكون بلا شك إضافة تغني مشهدنا الشعري. جمع بيننا حلم البدايات الأولى في ثمانينيات القرن الماضي، عندما التقينا لأول مرة في ثانوية عبد الرحمان الديسي، حيث كنا ندرس معا، كان هو في القسم الأدبي أما أنا فقد كنت أدرس بقسم العلوم المزدوجة، وكنت أسبقه بسنة دراسية، وفي مجلة الثانوية نشرنا أولى إسهاماتنا تحت إشراف الأستاذ الشاعر معروف نور الدين. عندما قررت في السنة التالية التقدم كمرشح حر لشهادة البكالوريا في شعبة الآداب، كنا نحضّر للامتحان بجدية في بيتنا العائلي، وبعد نجاحنا سجل هو في قسنطينة، وسجلت أنا في العاصمة. واصل هو مشواره الجامعي وتوقفت أنا في البداية، فكان ينقل لي أجواء الحياة الثقافية في قسنطينة وأخبار شعرائها. بعد الليسانس سجل في ماجستير الأدب الإنجليزي بالعاصمة وكان ينتظره مستقبل أكاديمي مشرق لولا أنه توقف واتجه للتعليم الثانوي كأستاذ للغة الإنجليزية. جمعنا زمن البراءة والأحلام الشعرية، وفرّقنا زمن الخيبات فلم نعد نلتقي إلا لماما؛ فرّقنا الموت الذي آثره وأخلد إليه، ولم يترك لي غير الحسرة وقبر طويل بقامة ظله العالي، قريب من بيتي أطل عليه وأقف على رأسه هو وأبي وأختي صباح كل جمعة ..سلام عليه يوم ولد ويوم يموت ويوم يبعث حيا .