ثورة الياسمين".. كان يمكن أن تكون عنوان قصيدة لشاعر تونس الأكبر أبو القاسم الشابي، لو أنه بقي على قيد الحياة، وقد ذهب كثير من السياسيين الذين تعودوا على لغة الخشب الجوفاء إلى أنها تسمية ناعمة ورومانسية لا تتلاءم مع الثورة التي قام بها الشعب التونسي، والتي كانت مشاهدها مؤثرة على ذوي الأحاسيس المرهفة "ثورة الياسمين" عبارة شاعرية تجمع بين متناقضين، وتعتمد على المفارقة الشعرية التي عادة ما نجدها في عناوين الشعر والرواية، كعنوان ديوان الشاعر الفرنسي شارل بودلير "أزهار الشر" مثلا.. كثير من غير الشعراء يرون أنه ليس من عادة الأزهار، وهي رمز الجمال والرقّة أن تكون شريرة، كما أن الياسمين الأبيض، بما هو رمز للوداعة والسلام، لا يمكن أن يقوم بالثورة وينتفض ضد الظلم. لكن منطق التاريخ الذي لا يعترف بتنظير المنظّرين، ولا يخضع لتخمينات السياسيين وهرطقاتهم، جعل "ثورة الياسمين" التي انطلقت شرارتها الأولى في سيدي بوسعيد تندلع تحت لواء الشابي "إذا الشعب يوما أراد الحياة فلابد أن يستجيب القدر.." رغم أنوف هؤلاء السياسيين الذين لا يؤمنون بأحلام الشعراء وأوهامهم، ولا يعترفون بالثورات الناعمة والمخملية، رافضين أن تسمى ثورة الحرائق والدم "ثورة الياسمين ".. ورغم رفض بعض ممثلي التيار الإسلامي من التونسيين، الذين رأوا في تحدي الشابي للقدر مروقا على تعاليم الدين.. رغم أنف هؤلاء وأولئك جميعا، ممن استكثروا على الشابي أن يكون ملهم شعبه وقائده إلى طريق الخلاص، هاهم يشاهدون سحر الشعر وتأثيره. ربما هذه هي المرة الأولى التي ينتصر فيها الشعر على السياسة، ويقود ثورة مظفرة ضد الاستبداد والظلم، ثورة شعارها وسلاحها الأوحد بيت من الشعر لشاعر مات في ريعان الشباب، متأثرا بمرض القلب الذي طالما خاطبه بمرارة قائلا "ها هنا صبية يلعبون بين الحقول، وهناك طائفة من الشباب الزيتوني والمدرسي يرتاضون في الهواء الطلق والسهل الجميل، ومن لي بأن أكون مثلهم؟ ولكن أنّى لي ذلك والطبيب يحذر علي ذلك لأن بقلبي ضعفاً! آه يا قلبي! أنت مبعث آلامي ومستودع أحزاني، وأنت ظلمة الأسى التي تطغى على حياتي المعنوية والخارجية". هاهو العالم يعيد اكتشاف الشاعر أبي القاسم الشابي من جديد، حتى أن كل كتبه قد نفدت من مكتبات العالم العربي، ويعترف له مرة أخرى بالعبقرية الشعرية والقدرة على اختراق الزمان وعبور المكان، فهو صاحب نظرية "إرادة الحياة" وصاحب النبوءة التي تحققت بعد ما يزيد عن السبعين عاما عن رحيله.. دهشة العالم أمام "ثورة الياسمين" في تونس أخرست ألسنة السياسيين والإعلاميين فلم يجدوا بدا من الاستشهاد ببيت الشابي "إذا الشعب يوما أراد الحياة فلابد أن يستجيب القدر.." حتى أن بعض الصحف اتخذت منه مانشيتات عريضة على صفحاتها الأولى. فمن قال إن الشاعر قد مات، وأن سلطة الشعر العربي قد ولت؟.. من سخرية القدر أن تتزامن ثورة الياسمين مع الذكرى المئوية لميلاد الشابي (المولود في 24 فيفري1909) الشهر المقبل، وكأن هناك تواطؤا بين القدر وبين التاريخ، كما أن البيتين الوحيدين من قصيدته "إرادة الحياة" الذين أدرجا في النشيد الوطني التونسي، والذي يعتقد الكثير أن مؤلفه هو الشابي، كانا شعار انتفاضة الياسمين في تونس.. لكني شخصيا أعتقد أن قصيدة الشابي "إلى طغاة العالم" أكثر تعبيرا عن واقع الحال التونسي، وتصلح أن تكون البيان الرسمي لثورة الياسمين، فهي الرسالة التي فهمها شارل دوغول في بداية القرن العشرين، فأعطى لتونس استقلالها، وفهمها زين العابدين بن علي في بداية القرن الواحد والعشرين.. الورى وزهور الأمل تأمل هنالك أنى حصدت رؤوس و رويت بالدم قلب التراب وأشربته الدمع حتى ثمل سيجرفك السيل سيل الدماء ويأكلك العاصف المشتعل أحمد عبدالكريم