خلال انعقاد اللقاء المغاربي للتخطيط اللغوي مؤخرا في الجزائر تحت قبعة المجلس الأعلى للغة العربية وأمام سيل من الآراء والأفكار ذات الصلة بالأمن الثقافي في عمومه وأمام جمهرة من العلماء واللغويين، في مقدمتهم البروفيسور الجزائري، عبد الرحمن حاج صالح، قفزت إلى قلبي تساؤلات مرة عن الراهن اللغوي في البلدان المغاربية وفي الجزائر تحديدا، البلد الذي تكبد أكبر الخسارات في تاريخ الاستعمارات وكانت محاولات مسخ هويته أفدح الضربات التي تلقاها طوال أكثر من قرن. تساؤلات نابعة أو تابعة للراهن اللغوي الذي نعيشه رغم أنوف ألسنتنا ووجداننا على السواء ، أو بتعبير العالم الفرنسي بيار بورديو "السوق اللغوية"، وهي السوق التي تخضع في النهاية لمنطق الحرب أو القوة، والغالب كما هو معروف يفرض شروطه على المغلوب، وفي كثير من الأحيان تجد المغلوب مستسلما للغالب فلا يكتفي بالأمر الواقع، بل يغالي ويولع بتقليد الغالب على رأي النظرية الخلدونية. والأدلة على صحة ما سبق أكبر من أن تستقصى ولا يختلف فيها اثنان ويكفي على ذلك واقعنا اللغوي في الجزائر على كافة المستويات، منذ سنوات عديدة وقع بين يدي كتاب "الوعي اللغوي " ولا أذكر اليوم صاحبه يدق الأجراس تنبيها على الطامات الكبرى التي تضرب المجتمعات والأمم إن هي لم تحفظ أمن لغتها بوعي جبار متجدد ومرابط أمام الآخر الذي لا يهدأ له قلب حتى يقطع الألسنة والقلوب لتصير المجتمعات مسوخا أو كالدواب لا وظيفة لها في الحياة إلا الركوب والتسخير. أين نحن من هذا الوعي اليوم في الجزائر ؟ وبالرجوع إلى الحياة اللغوية في الجزائر منذ الاستقلال وبنظرة عجلى خاطفة نقف أمام حقيقة مرة وهي أن اللسان الجزائري مايزال ساحة للوغى مفتوحة وإن بدا للكثيرين أن الصراع "المعرب الفرانكفوني" قد توارى قليلا عن النقاش العام، إلا أن الحقيقة غير ذلك تماما، وكما سبق وأن أشرت في عدد سابق، هناك حرب لغوية باردة في بلد الشهداء بين العربية وبين الذين لم يخرج الاستعمار من قلوبهم، كما قال الإبراهيمي رحمة الله عليه، من هنا لا يمكن الحديث عن الأمن الثقافي ولا عن الأمن بمفهومه الشامل دون الوقوف بهدوء وشجاعة أمام الخراب اللغوي الذي نحياه كلاما وممارسة وفي المدرسة والجامعات، وإن كان الثقافي أساس الأمن بلا نزاع والمأساة الوطنية التي عشناها خير دليل لأن المناعة الدينية والثقافية والجمالية عندنا كانت أوهن من بيت العنكبوت، ولا تنتظر ممن بضاعته نطيحة ومتردية أن يكون درعا للوطن لأنه لا يملك إلا أن يكون خنجرا في كبد الوطن عن جهالة نكراء دون الشك في النوايا، فقد غرر بزينة شباب هذا البلد وهم في زهرة العمر بشعارات ظاهرها الحق والرحمة وباطنها جحافل من الشرور والآثام والأباطيل. الحديث عن الأمن الثقافي واللغوي على السواء يدعونا إلى وعي حقيقي اليوم لإعادة النظر في الراهن اللغوي في الجزائر المفتوح على هزات اقتصاد السوق ومن ثمة تهافت الاستعمار القديم على إبقاء حصته من اللسان الجزائري ضمن ملك اليمين، من هنا فإن الوعي بالمأساة ضرورة والذهاب نحو ما دعا إليه عبد الحميد مهري قبل سنوات من الإسراع في وضع سياسة وطنية للغات في الجزائر كي تعرف قواعد اللعبة جيدا دون البقاء في خندق الحرب الباردة والغرق أكثر في وضعيات لا تسر الناظرين.