يتحدث الناس في الجزائر عن الإصلاحات وكأنها من الأشياء الجديدة على الجزائر.. والحقيقة أن البلاد منذ الاستقلال وهي تعيش الإصلاح ولكن الفساد والخراب بقي يسير بسرعة أكبر من الإصلاح.. لأن الإصلاح الذي اعتمدته السلطة في الجزائر عبر مراحلها المختلفة من عهد بن بلة إلى عهد عبد القادر المالي.. كان دائما إصلاحا يهدف إلى إسكات الشعب.. إذ لم نقل هفه! كل الإصلاحات التي تمت في الجزائر كانت متجهة إلى كيفية دعم الحكام لمواصلة الاستبداد والبقاء في الحكم. إصلاح بن بلة في بداية الستينيات كان إلهاء الفلاحين القوة الرئيسية في ذلك الوقت بما سمي بالتسيير الذاتي، وإبعادهم عن الإصلاح الحقيقي الذي يتطلبه وضع البلاد وهو بناء مؤسسات دستورية قوية تحكم البلاد.. فكان من العجيب أن يقوم بن بلة بالإصلاح الزراعي وإقرار قرارات مارس 1963 حول القطاع الفلاحي والتسيير الذاتي.. وفي نفس الوقت يوقف العمل بالبرلمان التأسيسي الذي انتخب غداة الاستقلال ووضع دستور الجزائر المستقلة.. دستور 1963! وقام بن بلة بإصلاح زراعي غطى به الفساد السياسي وتعطيل المؤسسات الدستورية.. وكان من الواجب أن يكون الإصلاح له علاقة بحل المسألة السياسية في البلاد آنذاك والأمر هنا يمر عبر بناء المؤسسات الدستورية وفرض سلطة الشعب على هذه المؤسسات.. خاصة وأن الخلافات السياسية بين الاتجاهات السياسية المختلفة وصلت إلى حد رفع السلاح من طرف البعض (حالة آيت أحمد) ووصلت إلى سجن البعض بعد خروجهم من سجن فرنسا مباشرة (حالة بوضياف) وفرار بعضهم إلى الخارج (حالة بيطاط).. وتصفية بعضهم جسديا (حالة شعباني)! ما أردت قوله بسرد هذه القضايا هو أن فكرة الإصلاح كانت دائما موجودة ولكن لا تتجه إلى السياسة بل تتجه إلى أشياء أخرى لا علاقة لها بالإصلاح الحقيقي وهو السياسة والمؤسسات الدستورية.. أي الإصلاح الذي يرسي دولة المؤسسات ودولة القانون ويكرس مبدأ التداول على السلطة وحق الشعب في تعيين حكامه ومساءلتهم وعزلهم بالانتخابات. هذا النوع من الإصلاح لم يحدث في الجزائر أبدا.. ولن يحدث أبدا في المنظور القريب مادامت القوة الأساسية التي ورثت الحكم عن الفرنسيين سنة 1962 ماتزال تفكر بنفس المنطق في موضوع المؤسسات والحكم وسلطة الشعب. بومدين نفسه لم يشذ عن قاعدة الإصلاح الذي دعا إليه في كل المجالات إلا المجال السياسي الذي يضع حكمه موضع تساؤل المواطنين وحقهم في تعيين الحكام ومحاسبتهم. بومدين حول جبهة التحرير من حزب سياسي إلى جهاز سياسي في يد الحكم دورها أن تقوم بالشرح والتوعية السياسية لما يراه الحكم مناسبا للشعب وليس ما يراه الشعب مناسبا لحكم الجزائر. دعا بومدين إلى ثورات إصلاحية في الزراعة والصناعة والثقافة أسماها الثورات الثلاث.. لكنه أبقى على الركود السياسي الكامل في البلاد.. فكانت الحكومة المعينة من طرفه فيها الوزير هو السياسي وهو المشرع وهو الناخب والمنتخب وهو المنفذ. وبمجرد أن اختفى بومدين ظهرت عيوب الحكم المبني على الأجهزة وليس المؤسسات.. وكادت البلاد أن تتدحرج إلى هاوية سحيقة بفعل الصراع حول السلطة بعد رحيل بومدين.. وتبين بالفعل أن البناء الحقيقي للبلاد ليس المصانع والمزراع والمدارس رغم أهميتها.. بل أيضا البناء الحقيقي للبلاد هو بناء مؤسسات حكم لا تزول بزوال الرجال كما وعد بومدين ولم يف بوعده هنا! وجاء الشاذلي فطبق الإصلاح الذي يمس التجارة وا لصناعة والفلاحة ولم يستطع الاقتراب من لب المشكل وهو الإصلاح السياسي الذي بات من المطالب الملحة مع تنامي الفساد الذي ينمو ويترعرع في غياب قيام رقابة الشعب بواسطة المؤسسات المنتخبة.. حتى جاءت أحداث أكتوبر فوجدت السلطة نفسها وجها لوجه مع مطالب حقيقية للإصلاح.. لكن الوعود بالإصلاح التي أطلقها الشاذلي لإسكات أحداث أكتوبر تم الالتفاف عليها من طرف القوة الرئيسية التي كانت دائما مستعدة لمناقشة كل شيء إلا الإصلاح الحقيقي.. ولكن الضغط كان عاليا في الشارع واضطرت السلطة إلى فتح الباب في دستور 1989 لبعض الإصلاحات السياسية ومن خلالها تبين كم كان الشعب يرفض النظام بحيث أعطى ثقته للمتطرفين نكاية في هذا الحكم الذي يرفض الإصلاح السوي. وكانت هذه حجة كافية لإعادة النظر في مسألة الإصلاح التي جاءت محتشمة في دستور 1989.. وعادت حليمة إلى عادتها القديمة بحجة خطر التطرف. ومنذ بن بلة إلى اليوم ظلت مسألة الرئاسة قضية أزمة دائمة.. فكل مرة يأتي الحديث عن تغيير الرئيس لسبب أو لآخر تحدث أزمة في البلاد.. لأن طرائق تعيين الرئيس الذي يحكم البلاد بقيت دائما غير معلومة وغير محددة ومحل صراعات غير سياسية في الغالب الأعم. حدث هذا عند رحيل الشاذلي.. وحدث عند رحيل بوضياف وحدث عند رحيل كافي.. وحدث أيضا عند رحيل زروال.. وهو الآن يطرح من جديد مع اقتراب البلاد من مرحلة ما بعد بوتفليقة. جميع الرؤساء الذين مروا بالبلاد قالوا إنهم ينجزون إصلاحات.. لكن إصلاحات كل هؤلاء الرؤساء لم تحسم المسألة الأساسية في الإصلاح وهي حق الشعب في أن يعين من يحكمه.. وليس حق الشعب في أن يوافق على من يقترحه عليه غيره ليحكمه؟! منذ نصف قرن ومعارك الإصلاح في الجزائر تجري على هامش المسألة الرئيسية وهي المسألة السياسية.. وقد كانت هذه الصراعات الإصلاحات تتم في بعض الأحيان على مستوى صفحات الدستور إلى درجة أن الدستور تحول إلى ورقة توت يستر بها الحكم عوراته التي يراها الشعب بكل وضوح عند كل موعد انتخابي.. وعلينا أن ننتظر 20 سنة أخرى كي يفهم الحكام الفعليون عندنا أن الإصلاح هو قيام سلطة الشعب على المؤسسات الدستورية كلها بلا استثناء. هذا هو الإصلاح الذي بالتأكيد لن تدنو منه إصلاحات بن صالح!