اعتقد ''توماس هوبز'' الفيلسوف السياسي الانجليزي (1588 1679)، أن الأفراد والأسر كانت قبل ظهور التنظيم الاجتماعي تعيش في حالة حرب دائمة، ''كل إنسان ضدّ الآخر'' فهي حالة الفوضى، واشتهرت عنه مقولة ''الإنسان ذئب لأخيه الانسان''. وفي تصور ''هوبز'' أنه في حالة الطبيعة المفترضة هذه خرج الناس باتفاق ضمني مفاده أن يخضعوا جميعا لسلطة عامة. وتلك كانت نظرية العقد الاجتماعي Le contrat Social التي أصبحت مألوفة وشائعة بفضل رسالة ''جان جاك روسو'' Rousseau . j . j 1712 1778، التي تحمل نفس الإسم وصدرت سنة 1762. اقترح هوبز أن يجعل من الدولة نظاما ضخما عليه أن يستوعب كل النشاط الانساني ويوجهه، فوصف الدولة بأنها ''تنين'' Leviathan ، في كتابه الذي يحمل هذا الاسم (صدر بلندن سنة 1651) ''لوياثان'' وهي كلمة عبرية تعني ''الملتوي'' عثر عليها في سفر أيوب من كتاب العهد القديم، تطلق على حيوان بحري هائل، وحش يسيطر على كل الوحوش الأخرى، وذلك إشارة من ''هوبز'' للقوة والسلطة العظيمتين اللتين تتمتع بهما الدولة. واعتبر ''هوبز'' الدولة شخصا معنويا، إرادتها مجموع إرادات أفرادها (أفراد الشعب). ويلاحظ أنه لا شيء مما يضعه الإنسان الفاني يمكن أن يكون خالدا. ومع ذلك يمكن للدول أن تنشأ بمساعدة مهندس فائق القدرة بدرجة تمنع اضمحلالها بسبب الفوضى الداخلية، قائلا: ''تبدأ الدول في الإنحلال ليس عن طريق قوة خارجية، وإنما عن طريق صفوف من الفوضى الداخلية، فإن الخطأ لا يكون في الناس، من حيث كونهم مادتها، بل من حيث كونهم صانعيها ومنظميها''، (leviathan chap XXIX) بات، إذن، من الواجب عليها اليوم تحت وطأة المتغيرات الدقيقة والخطيرة التي تمر بها الجزائر، المقبلة على حزمة من الاصلاحات الشاملة والعميقة، التي من شأنها أن تخرج الدولة الجزائرية في مظهر جديد ومخبر أفضل، أن ندافع على الطابع أو النظام الجمهوري للدولة الذي يعني تغليب المصلحة العامة فوق كل الاعتبارات، وأن الشعب مصدر لجميع السلطات، والتداول على السلطة سلميا عن طريق الانتخاب العام والحر، لا عن طريق التوريث (النظام الملكي) أو المبايعة (في نظام الخلافة كما يعرفها ابن خلدون في المقدمة ص ,151.) أو التعيين أو العنف (إثر الانقلابات أو الثورات...). وكل ما يستتبع ذلك من قيم الجمهورية التي تأتي في مقدمتها المساواة والحرية والتضامن (أو التآزر).. وقد دعا الرئيس عبد العزيز بوتفليقة في خطاب الإصلاح الشامل يوم 15 أفريل 2011 إلى الحفاظ على الجمهورية ومكتسباتها الديمقراطية. أعترف أنه ليس من السهل الحديث عن الدولة الجزائرية في مختلف مراحلها وأطوارها، دون الوقوع في الانزلاقات وفخّ التعسف في التحليل والرؤية أو القراءة، ولكنني مضطر إلى إعطاء فكرة عامة للقارىء عن الدولة الجزائرية في ماضيها القريب لفهم حاضرها المعاش. تماما مثلما قمت بتقديم فكرة ''هوبز'' الفلسفية عن الدولة لأنها تتناسب مع ما تتعرض له الدولة الحديثة في عصرنا هذا من هزات عنيفة وضربات موجعة تطال قلب الدولة وهو مفهوم السيادة، وتضع الدولة كشعب وحكومة وإقليم أمام استفهامات عديدة. دولة المقاومة لم يكن الفكر الجمهوري في معناه الواسع والعام Lato Sensu غائبا تماما عن تاريخية قيام الدولدة الجزائرية على يد الأمير عبد القادر، تحديدا في معناه الذي يتمثل في رفض كل أنواع السيطرة والهيمنة والخضوع non - domination ، فالدولة التي أعلن عن قيامها الأمير عبد القادر بين سنة 1832 1840، قامت نتيجة ضرورة تمثلت في تخليص المسلمين الجزائريين من السيطرة الأجنبية (الفرنسية)، أي دفاعا عن الدين والوطن، فهي كانت دولة المقاومة والجهاد، وكانت الدولة الوليدة تلك تتمتع بكل مظاهر السيادة ومقومات الدولة بالمفهوم الحديث وهي الحكومة والشعب والإقليم، رغم عدم وضوح الحدود الجغرافية للدولة بسبب الاحتلال الفرنسي من جهة وبسبب اعتماد دولة الأمير على القبائل من جهة ثانية. لكن رغم ذلك، فإن هذه الدولة الجزائرية التي أنشأت الأمير عبد القادر كانت تتمتع بوحدة إدارية وعسكرية واقتصادية وقضائية... وكانت المساواة أمام القانون فيها أساسا للحكم. قامت دولة الأمير عبد القادر على الإرادة الشعبية والبيعة الشرعية، واستعان برأي الجماعة ومبدأ الشورى منهجا للحكم، والتزم التزاما كاملا بمبدأ احترام القانون. وكانت للدولة عملة خاصة يطلق عليها ''المحمديّة'' وكانت عاصمة الدولة مدينة «تاقدمت» (موقع تاهرت العاصمة الرستمية)، قبل ''الزمالة'' وهي العاصمة المتنقلة، كما أنشأ الأمير نظاما قضائيا تولى فيه هو نفسه خطة ''أكبر القضاة''، وكان للدولة جيش مسلح ومدرب، وفرض الضريبة (الزكاة، العشور، حق البرنوس، الغرامة أو الخطية..)، وأنشأ نظاما تعليميا جعله عاما ومجانيا، وكان ينفق المال العام في بناء المصانع وتشييد القلاع والحصون وشراء السلاح ومساعدة طلبة العلم ودفع أجور المدرسين... وفي سائر ما يدخل تحت طائلة المصلحة العامة. كما كانت للدولة علاقات خارجية واتصالات دبلوماسية مع دول أخرى مثل أمريكا وبريطانيا واسبانيا... دولة الاستقلال بعد نجاح ثورة التحرير المجيدة (نوفمبر 1954) في افتكاك الاستقلال من فرنسا، ومرور الدولة الجزائرية الفتية بالمرحلة الانتقالية كما نصت عليها اتفاقية ''ايفيان''، وجدت الدولة الجزائرية نفسها أمام مشاكل وصعوبات كثيرة، ورغم أنها في عهد أحمد بن بلة (رئيس الحكومة) من سنة 1962 إلى سنة 1965 تمكنت من تحقيق بعض الانجازات الاجتماعية عبر القضاء على المتسولين لاستر داد كرامة الجزائري التي طمسها ذل الاستعمار الفرنسي، إلا أن الدولة كانت ضعيفة اقتصاديا نظرا لافتقارها للموارد، حيث أن قطاع الطاقة كان لايزال بيد الفرنسيين، بالإضافة إلى أعمال النهب والتخريب التي قامت بها فرنسا قبل خروجها من الجزائر، حيث تركت خزينة الدولة خاوية تماما. وكانت الدولة الجزائرية معطلة تحت ثقل حزب جبهة التحرير (الحزب الواحد آنذاك) وذلك نتيجة لميثاق طرابلس جوان 1962 الذي منح الأولوية للحزب على الدولة باعتبار أنه هو الذي يضع الخطوط الكبرى لسياسة الوطن، ويقترح نشاطات الدولة كما نص على أنه: ''حتى لا يتعرض الحزب للإبتلاع من طرف الدولة يجب عليه أن يبقى دائما محافظا على امتيازه''. فصارت الدولة كالصدفة الفارغة، وجاء ميثاق الجزائر سنة 1964 لكي ينص على أن ''الدولة'' أداة تسيير البلاد يحركها ويراقبها الحزب الذي يتعين عليه ضمان سيرها المنسجم الفعال. دولة البناء والاستقرار ذلك الوضع سرعان ما انقلب بعد حركة التصحيح الثوري الذي قام بها وزير الدفاع آنداك الشاب هواري بومدين في 19 جوان 1965، وأصبح بموجبها رئيسا للبلاد. انطلقت حقبة حكم هواري بومدين للدولة بتكريس هيبة الدولة الجزائرية داخليا وخارجيا، وهي الفترة التي عرفت بتشييد دولة مستقرة سياسيا ومزدهرة اقتصاديا، ودولة لا تزول بزوال الرجال، وهذا يدعم نظرية ''ليبسيت'' في أن التنمية قبل الديمقراطية، Lipset ''أي كلما كان حال الأمة أفضل (اقتصاديا) كانت فرص تعزيز الديمقراطية أعظم''، ولكن السائد اليوم هو نظرية ''سيغل'' وفاينز شتاين weinstein وهالبرين بHalprinب القائلة بأنه لكي تتطور الدول الفقيرة اقتصاديا ينبغي عليها أن تصبح ديمقراطية. فلم يعد آنذاك الحزب الوحيد يمثل سلطة موازية لسلطة الدولة، رغم احتفاظه بنفوذ قوي في الدولة، وصار دوره يتمثل في المساهمة في خلق الظروف السياسة الملائمة لتحقيق هدفين أساسيين : 1 تكوين الأجهزة الضرورية الفنية والقادرة على تطبيق الاشتراكية في مختلف الميادين. 2 بناء دولة الجزائر الثورية والاشتراكية وتدعيمها بإطارات واعية مدربة مسؤولة من المناضلين. وعرفت الدولة الجزائرية إشعاعا دوليا لا مثيل له ولعبت دورا هاما في نصرة القضايا العادلة (القضية الفلسطينية)، والدفاع عن قضايا المستضعفين عبر صوت دول عدم الإنحياز، وكذلك المطالبة بنظام دولي جديد (سنة 1974 بهيئة الأممالمتحدة)، وكان آنذاك لوزير الخارجية عبد العزيز بوتفليقة دورا رياديا في تحقيق الأهداف الاستراتيجية التي وضعتها لنفسها الدولة الجزائرية لتتبوأ مكانتها القمينة بها تحت الشمس الدولية ومصاف الدول المتقدمة. وقامت الدولة في بداية السبعينات بتأميم المحروقات وبناء المصانع الثقيلة، وتم وضع دستور وميثاق للدولة في سنة 1976. دولة الانفتاح والاصلاحات بعد وفاة الرئيس الراحل هواري بومدين في منسلخ ديسمبر 1978، دخلت الدولة في معترك لخلافة ''بومدين'' على رأس الدولة، اتسمت الدولة في عهد الرئيس الشاذلي بن جديد بالانفتاح على جميع الأصعدة وتمت القطيعة مع الدولة في عهد سلفه هواري بومدين فانتهت الثورة الزراعية وتم وضع حد للثورة الصناعية ولفظت الثورة الثقافية آخر أنفاسها. وقامت الدولة بإنفاق كثير من الأموال على مشروع من أجل حياة أفضل. وتوالت إثرها اصلاحات هامة منها وضع دستور جديد للبلاد وهو دستور 1989 الذي أقرّ مبدأ التعددية السياسية والاعلامية، ونص على أن الإسلام هو دين الدولة وأن اللغة العربية هي اللغة الرسمية وحدد مهمة الجيش بصون الاستقلال والدفاع عن السيادة. وتمت بعد استقالة الرئيس الشاذلي بن جديد إقامة المجلس الأعلى للدولة في شهر جانفي 1992، والذي تولاه الرئيس الراحل محمد بوضياف الذي تم اغتياله بعد 167 يوما فقط بمدينة عنابة، وتولى بعده الرئيس علي كافي الرئاسة بالمجلس الأعلى للدولة، وذلك دائما تحت حالة الطوارىء التي تم الإعلان عنها سنة 1992، وكان بالمجلس أيضا علي هارون وتيجاني هدام، ورغم أن المجلس الأعلى للدولة قد فتح حوارا مع الطبقة السياسية الجزائرية للخروج من عنق الزجاجة وايجاد حل للأزمة السياسية نتيجة انعدام الثقة بين الفرقاء، ثم انتهت بعدها مهام المجلس الأعلى للدولة في جانفي 1994. كانت الدولة في عهد بوضياف وعهد علي كافي تبحث عن الشرعية. وبعد أن أعلن الرئيس زروال سنة 1998 عن نيته في اختصار مدة رئاسته التي تنتهي سنة 2000، غادر الرئاسة في أفريل 1999. دولة السلم والمصالحة الوطنية بعد تولي الرئيس عبد العزيز بوتفليقة للحكم إثر فوزه في انتخابات أفريل 1999 بنسبة تناهز 74٪ ، ألقى أول خطاب له في 29 ماي 1999، وصف فيه الدولة الجزائرية ب''الدولة المريضة'' ودعا الشعب إلى إزالة أسباب العنف واستعادة الوئام المدني، وردّ الاعتبار للعدالة وإصلاح حقيقي للمدرسة، وفي شهر سبتمبر 1999، طرح الرئيس على الشعب الجزائري قانون الوئام المدني للاستفتاء، وحصل الرئيس على دعم الشعب بالتصويت بنعم على الاستفتاء بأغلبية ساحقة، وبدأ بعدها العد التنازلي لتأهيل الدولة نحو مصالحة تاريخية مشهودة. وكانت تلك الخطوة الأولى لإخراج الدولة من الانعاش التي دخلتها في العشرية الدموية السوداء، للتدرج بها نحو الشفاء الكامل الذي تمّ بمسحة مباركة من قانون السلم والمصالحة الوطنية التي حظي بموافقة شعبية عريضة وباهرة في سبتمبر 2005. المستقبل لدولة العيش الكريم امام رياح الإصلاح والتغيير التي فرضتها ضرورة تجديد الدولة كما ذكر هذا الرئيس، بوتفليقة نفسه في خطابه الذي ألقاه على الأمة الجزائرية بتاريخ 15 أفريل 2011، ذكر فيه عزمه على إنجاز اصلاحات عميقة بالدولة، وتم تكليف لجنة برئاسة رئيس مجلس الأمة عبد القادر بن صالح، وهو معروف بالرصانة وقدرته الاستثنائية على الجمع، وذلك لكي تقوم هذه اللجنة بجمع الاقتراحات من كل الأحزاب السياسية والشخصيات الوطنية والأطراف الفاعلة في المجتمع المدني الذين دعوا لتقديم آرائهم ومقترحاتهم يتم رفعها بعدها لرئيس الدولة، وهذا الاجراء بدّد شكوك المرتابين في صدق نية رئيس الجمهورية في التعجيل بإحداث اصلاحات شاملة وعميقة للدولة، خاصة بعدما اتخذ رئيس الدولة قراره برفع حالة الطوارىء التي أمتدت منذ 1992. من شأن هذه الاصلاحات الدستورية والسياسية والادارية.. الشاملة والعميقة أن تساهم بشكل فعال في جعل الدولة الجزائرية ''دولة عتيدة الأركان ومهيبة الجانب'' قادرة على إحلال ثقة أكبر بين الإدارة والمواطنين، ودولة تكون فيها الادارة متمتعة بالكفاءة والمصداقية، ولا تحضع العدالة فيها سوى لسلطان القانون، وهذا يعني تجديد أنفاس الدولة الجزائرية، بحيث تصبح دولة: 1 ''تحارب الفساد بكل صرامة وإصرار''. 2 ''تتمتع بأجهزة نشيطة''. 3 تعزّز دعائم دولة الحق والقانون. 4 دولة مسؤولة (حقيقة) عن سياسة التنمية وبسط النظام ونشر الأمن. وتهدف هذه الاصلاحات حسب خطاب أفريل 2011 إلى : 1 تعميق المسار الديمقراطي، وهو ما سيفرز بالضرورة ''حكامة Gouvernance أفضل''، دعم اللامركزية وجعل الخدمة العمومية تتمتع بنجاعة أكبر واقترابها أكثر بالمصلحة العامة والنفع العام وهذا من شأنه أن يضمن لها مزيدا من الشرعية. 2 تمكين المواطنين من مساهمة أوسع في اتخاذ القرارات، وهذا عبر المجالس المنتخبة بالأساس التي سيتم تعزيز دورها وتوسيع صلاحياتها لما لها من ''صلة مباشرة بالواقع المعيش للمواطنين''. هكذا يكون الرئيس بوتفليقة قد أنقذ الدولة مرة ثانية من جلطة قلبية خطيرة، وبهذا يمكن توصيف الدولة الجزائرية في عهده بأنها الدولة المتعافية والمتصالحة مع ذاتها والناس والتاريخ. هذه الدولة الجديدة كفيلة بتحقيق ما يصبو إليه المواطن اليوم من العيش الكريم الذي لا يمكن أن يتحقق إلا باثنتين هما عمل يرتزق منه ومسكن لائق يأويه مع أسرته، وثالثة الأثافي وهي الحرية الأساس الضروري للإبداع والمبادرة والتفكير، بشرط أن تكون حرية مسؤولة ومنسجمة مع النظام العام.