تُطالعنا القوانين والنُّصوص الجزائرية بصورة عامة ، في أحْيان عدّة، بخَرجات لا أقلَّ من أنها ابتكار في عالم الُمصْطلحات، ففي قائمة المحظورات التي أدرجتْها السلطة في قانون الجمعيّات، نجد منْع التدخل فيْ الشؤون الخارجية والداخلية للبلد. إنّ قراءة لخلفيّة الصورة التي يُنْتجها هذا الرّسم، توحي ولاشك بِزريبة شاسعة يقْبع بداخلها كثير من الأنْعام، ويقف على أبوابها رُعاة يمسكون بيدهم عصي ويتحكمون في كل ما يحيط بشؤون الزريبة، وعلى الأنْعام التي بالداخل أنْ تكتفي بالرعي إنْ تسنَّى لها ذلك، دون أنْ يحقُّ لها أن تحلم بالخوض فيما يحدث خارج حدود مرعاها، حتى وإن تعلّق الأمْر بمصيرها أو مصير الجنس الُموَلَّد منها. قد تكون الصورة السابقة أكْثر احْتراما للقطيع، وأخفّ من تشْبيه الحال بسجن عظيم يُمنع على السجين فيه الإطِّلاع على ما يحيط بشؤون وجوده ومعاشه، فضلا عن شؤون مصيره. وإذا كان الأمْر لا يُسْتساغ البتَّة في بلد يعيش وسط عالميْن، عالم متُحضِّر، وعالم يهْفو بكل الوسائل إلى التحضُّر، فإنّ الصورة تُصْبح أكثر نذالة، حين يمنع قانون الجمعيات على الجزائريين التدخل في الشؤون الداخلية للبلد الذين يعيشون فيه. جمْلة المنع هذه ليست بحاجة إلى إعادة قراءة لمعرفة الهفْوة العظمى والزلّة الكبرى التي يقع فيها “الُمشرَّع” حين يُوافق على تمْريرها، وستبْقى وصْمة عار في ردِف كل من رفعوا أيديهم مُصوَّتين، ولعله سيأتي يوم بجيل أكثر جرأة ، فيكتبها على شواهد قبور هؤلاء. التَّدخُّل في الشؤون الداخلّية، أوَّلاً، لا يُمكن لكلمة التدخُّل وكلمة الشؤون الداخلية، أنْ يتضادان لا لفْظا ولا معنى في جملة واحدة، ذلك أن التدخل لا يكون من الداخل، فالذي بالداخل يجب أنْ يخْرج إلى الخارج كي يستطيع غيره من منعه من الدخول، وبدون ذلك فإنّ المنع لا يستقيم له حال. - ثانيا، ها قد مَنَعت السلطة على مواطنها التدخُّل في الشؤون الداخلية، فهل لهذه السلطَة أنْ تمْنع دول خارجيّة من التدخُّل في الشؤون الداخلية للبلد، وأمامنا أمثلة كثيرة عن واقعة الحال. إنّ منع الدول الاجنبية من التدخُّل في الشؤون الداخلية، لا يكون ولن يتأتَّى لأيِّ سلْطة، إلا إذا إصْطف وراءها شعْبها، أو عرفت كيف تُصفٍّفه وراءها، وهو المعنى المتنزل من قوله تعالى: إن الله يحب الذين يُقاتلون في سبيله صفًّا كأنهم بُنْيان مرصوص. ولن يكون هذا الإصطفاف ممْكنا إلا بالمجادلة بالتي هي أحسن بين الحاكم والمحكوم، وتبادل القناعات والإقناع بينهما. - ثالثا، من الغباء أن تُسنّ نصوص لغيْر زمانها، فالمنْع غير قابل للتطْبيق أصْلا، حين تعْمد هذه الجمعيات أو الأشخاص إلى العمل وبثٌ أفكارها في الخفاء، ليس خَفاء التنظيمات الإسلاميّة والشيوعيّة في ستٍّينيات وسبعينيات الألفيّة الهالٍكة، بل خفاء الشبكة العنْكبوتية التي تَتفتّح في مطْلع كل يوم جديد عن تكنولوجيات واسعة لا يحتاج الإنسان إلاّ لكبْسة زرّ لولوجها، وبثِّ رؤيته من خلالها. من أجل ذلك، وَجَدت الدول الُمتحضِّرة بديلا للمنْع الذي لا يلْجأ له إلا العاجزون، وَاستعاضت عنه بمنهج الديمقراطية في كل حواراتها الخارجية فضْلا عن شأنها الداخلي، حتى إذا تحركت، كانت حركتها صلْبة متينة، تسْتند على شعوبها، ككتلة واحدة، يحترمها العدو والصديق، بل إنّ من الرؤساء من يحْتمي بشعْبه لدى إتِّخاذ قرارات يرى أنّها قد لا تُرْضِي دُوَلاً صديقة، فيُجاهر بأنهّ مضْطر لإتباع ما إختاره شعبه. أمّا في البلدان التي تحْكمها سُلط متخلِّفة، فإنّ الحاكم طالما ينْبري في تفاوضاته مع الخارج، مُخلِّفا شعبه وراءه، بل إن من القادة من يتبخْتر نافٍشا ريشه كالطاوس، مظهرا لغيره جبروته بفخر، مُعْتقدا في شعْبه الجهْل بالمصالح، وهو بذلك إنّما يسْتند إلى ريح، عاريَ الكتفيْن، فيخْضع إلى ضغوط الدول المفاوضة. وفي كثير من الأحْيان لا يجد بدا من التنازل خوْفا من “التّخْلاط”، نظرا لقابليّة حاله “للتخلاط”. ولا غرو، أنْ بعد زمن، تنْهض الشعوب، لتكْتشف أنْ كلّ رهاناتها مرهونة، في ظلّ إتِّفاقيّات عُقِدت دون إْستشارة أو نشْرٍ أو إعلامٍ، ولا ينْفع تلك الشعوب يومذاك، حتى التبوُّل على قبور من ورَّطوها. إن سياسات التكْبيل والتكْميم ليست لا في صالح الحاكم ولا المحكوم، بل في صالح الدول الُمسْتحْلبة لكل بقَرة حلوب، ولا حول ولا قوة إلا بالله في كل أمْر نزل أو هو نازل، وفي كل قضاء آجل أو عاجل. [email protected]