ودع العرب والعالم رجلا عظيما جدا في قدرته على التحمل لمدة ست وتسعين سنة هي طول فترة حياته التي قضى ربعها تقريبا في السجون سواء من المستعمرين أو سجن رفاق الدرب الذين انقلبوا عليه بدعوى حماية مسار الثورة. إن أحمد بن بلة يعتبر طودا شامخا في عطائه للعروبة والإسلام رغم المحن التي عاشها ولكنه لكونه مؤمنا بمشروع تغيير لهذه الأمة لم يكن إلا البسمة تعلو محياه بشكل دائم. كان بطلا قوميا عروبيا بامتياز لأنه آمن بعروبة الجزائر. رغم إتقانه العربية بشكل جيد أثناء فترة سجنه. إلا أن عودته إلى أصل شعبه وهويته الحضارية والقيمية دليل على عراقة الجزائر وانتمائها حقيقة إلى محيطها العربي والإسلامي. وهذا ما عمل عليه سواء في فترة الكفاح ضد المستعمر أو بعد ذلك كشخصية عربية تحظى باحترام كل القوى التقدمية في الوطن العربي والعالم وذلك لأنه أحد رموز الثورة الجزائرية الملهمة وأبرز زعمائها السياسيين الذين قادوا البلد للتحرر من الاستيطان الفرنسي.. لقد ترجل فارس العروبة والإسلام بحق وأسلم الروح إلى بارئها ولكنه سيظل خالدا في نفوس الأجيال اللاحقة نظرا لعطائه الغزير لأمته العربية ودفاعه المستميت عن قيم العروبة والإسلام. وقد تحمل في سبيل ذلك ما لا يقدر عليه سواه من طول المعاناة والأسر سواء من الأعداء أو رفاق السلاح الذين رأوا فيه رأيا لا نتفق معهم فيه. وإن من المشاهد المؤثرة والتي تعبر عن قوة شخصية لهذا الرجل ذلك المشهد الذي يعانق فيه بحرارة الرئيس الجزائري عبد العزيز بوتفليقة بالرغم من أنه كان شريكا في الانقلاب عليه ثم نرى بوتفليقة يتقدم الصفوف في وداع الراحل تقديرا منه لهذا الرجل يؤكد أنهم ما حملوا عليه ضغينة نتيجة لخيانة وإنما فقط اختلاف في وجهات النظر ولكن العظيم يبقى كذلك حتى بدون رئاسة. كان بن بلة مناهضا شرسا للاستعمار بكل أشكاله، صديقا حميما لقادة حركة التحرر في إفريقيا وأمريكيا اللاتينية، مولعا بالثوار في كل مكان من العالم مؤازرا لكل نفس تحرري بحيث تجاوز البعد القومي إلى البعد العالمي. كان اشتراكيا وكان مخلصا لأفكاره وتوجهاته، قاتل وثار وحكم وسجن واختار المنفى وعارض وتصالح وتقلب بين دروب النضال حتى ما ترك شعبا من شعابها إلا وسلكه، كان مهموما بقضايا التحرر من أشكال الاستعباد والاستعمار والوصاية، ومن تقمص شخصية عبد الناصر كان له معينا ونصيرا، وتوفي وهو يرأس ”لجنة الحكماء” التابعة لمنظمة الوحدة الإفريقية. رفض وعارض الخط الدموي الذي أغرق الجزائر وهوى بها إلى القاع في سنوات الجمر التي مرت بها بلاده في التسعينيات، نادى بالمصالحة وعمل على إقرارها وتبنيها من مختطفي الحكم آنذاك، وما تحالف مع العسكر ضد شعبه الذي حرره من الاستعمار فكيف يرضى به محتلا من عساكر لم يكن لأكثرهم ذكر أيام حكمه؟ نشأ وكبر على مذهب زمانه اشتراكيا يساريا آمن بقضية شعبه في التحرر ورفض أن يزج به في صراعات الحكم بعد الاستقلال، ولم يكن يرى في نفسه رئيسا متسلطا أيام حكمه. عاش بن بلة لأفكار كبيرة ومات كبيرا. خدم القضايا وترفع عن الجزئيات والتفاصيل. تسامح وتصالح وخاصم ولم يفجر، وكان جديرا بالزعامة على مستوى عالمي. لذا فإن موته بالرغم من أنه قدر إلهي لا مرد له بالنسبة إلينا كمؤمنين، لكنه يظل خسارة كبرى لكل المناضلين والشرفاء والأحرار والتقدميين في كل العالم. فإنا نودعك بعيون دامعة ولكن بإصرار على المضي في الطريق الذي سلكته لأنه طريق الكبار والعظماء في هذا العالم. بقلم الناصر خشيني