في سياق عمل تلفزيوني مسجّل لبرنامج خاص، حملت قبل يومين متاع التصوير باتجاه بلدة طولقة (حوالي 40 كلم من مدينة بسكرة)، للقاء الشاعر الجزائري الكبير عثمان لوصيف، الذي يعدّ واحدا من المجددين في الشعر العربي المعاصر، والذين يشتغلون في الحقل الثقافي الجزائري يعرفون جيدا من هو عثمان لوصيف، لذلك كانت فكرة دخول بيت الرجل هاجسا جميلا ظلّ يرافقنا إلى حدود طولقة. دخلنا جنّة طولقة مع الخيوط الأخيرة لشمس ذلك المساء، وكان هاجس الاقتراب من ذاكرة الشاعر الهارب من الضوء يلفّنا قبل أن نصل إلى قرية "الرقّادة" بصحبة ستار الليل، وهي القرية التي يسكن في طينها عثمان لوصيف.. هل يعلم جيران عثمان أنّ بقلب ذلك البيت الطيني المتواضع، يسكن شاعر؟ هو السؤال الذي وصلتنا إجابته موجعة؛ حيث كان شباب البلدة الصحراوية المتصالحين مع "لوك" المدينة، يعرفون عن بلدتهم كل شيء لكنهم لا يعرفون عن الشاعر شيئا! عندما فتح علينا الشاعر باب البيت الخشبي، ببساطة رجل خارج من دوخة قيلولة، أدركنا أنّ هذا الواقف أمامنا بقدر ما تبتهج ملامح وجهه لرؤية ضيف بقدر ما تنقبض لرؤية آلة تصوير أو كاميرا. جلسنا مع عثمان على بساط الراحة، تحدّثنا عن الشعر الذي يعانيه، عن الأرق الذي يصاحبه والنوم الذي يجافيه، عن الصداع النصفي الذي يلازمه وعن الدعوات التي تصله ولا يصلها.. عن بساطة المكان وعن الرحب والسعة.. تحدّثنا عن الوجع الذي يعتريه كلّما نسي اسما أو وجها كان يعرفه.. أكلنا شخشوخة بسكريّة حارّة وشربنا شايًا صحراويا أصيلا أصالة القرفصاء التي أحطناه بها؛ في انتظار أن يقبض الميكروفون على لسانه والكاميرا على وجهه.. بعد ساعتين من الضيافة الصحراوية الكريمة، ومحاولات الإقناع الجاهدة، استطعنا أن نقنع عثمان لوصيف بأن يدخل الكاميرا. طلب منا الشاعر الكريم، أن نمهله وقت ارتداء شيء يليق بالكاميرا، فمنحناه كلّ الوقت.. انتظرنا ربع ساعة.. نصف ساعة.. ساعة إلا ربع.. ساعة وعشرين دقيقة، قبل أن يدخل علينا ابن الشاعر ليقول لنا وصيّة والده: ".. يقول لكم أبي، شكرا لأنكم كنتم ضيوفي.. لكن؛ لأنني أحترم كلّ الذين عرفوني والذين لا يعرفوني، أرفض أن تنقل لهم الكاميرا هذه الصورة المحبطة وأنا على قيد الأرق والمرض، أريد أن تبقى صورة لياقتي الشعرية والجسدية هي الحاضرة في أذهان الذين عرفوني وأحبوني. أنا لا أريد أن أقدم صورة بائسة عن المثقّف الجزائري.. فاعذروني". غمرنا الشاعر بكرم الضيافة ثم هرب كي لا تقبض عليه الكاميرا!!.. حملنا متاعنا وغادرنا طولقة، وفي ذاكرتنا صورة لقاء هارب من الديكور المزيف للثقافة الجزائرية، لقاء، قبضت عليه ذاكرتنا ولم تقبض عليه ذاكرة الكاميرا.. لقاء جميل مع شاعر حقيقي اسمه عثمان لوصيف.