تعاني الكثير من الفتيات بشوارع مدينة الصخر العتيق، من ضغوطات التحرش بهنّ جهارا نهارا، إذ كثيرا ما يتعدى هذا السلوك المستفز تلك العبارات المهينة والمسيئة للأخلاق، إلى التطاول عليهن باستخدام العنف الجسدي، وغالبا ما يصعب على الفتاة الرَد على هذا السلوك المرفوض قلبا وقالبا، وذلك أمام إحجامها عن رفع دعوى قضائية ضد مرتكبي هذا السلوك، الأمر الذي ساهم في استفحال هذه الوضعية التي تعصف بالشارع الجزائري عموما، في ظل العرف المجتمعي “الذكوري” الذي يحمي الرجل أحيانا. “الفجر” ارتأت التوقف عند هذا السلوك الدخيل على المجتمع الذي طالما اتسم بطابعه المحافظ، في محاولة لكشف المستور عن أسباب وخفايا هذه الظاهرة التي تعد أحد الطابوهات المسكوت عنها. التحرش في عيون الرجل القسنطيني اعتبر جل من تحدثت “الفجر” إليهم من الرجال بالشارع القسنطيني أن غالبية حالات التحرش بالمرأة، سواء في الشارع أوالفضاءات العمومية، وكذلك داخل أماكن العمل والوسط الجامعي، سببها الرئيسي المرأة نفسها، إذ تساهم - حسبهم - بنوعية لباسها في تعرضها لعملية التحرش، لتختلف حدته وشكله باختلاف مواقع حدوثه. ولعلّ أكثرها بروزا تلك التي تتعرض لها المرأة في الأماكن العامة، أين يجد الشاب المتحرش الحرية التامة في التعبير عن مكبوتاته الغريزية. يقول كريم، بائع أقمشة بحي العربي بن مهيدي، إن المرأة والرجل يتشاطران مسؤولية هذا الفعل الذي ينّم عن عدم المسؤولية وعدم الاحترام، ففي بعض الأحيان قد تلتقي بفتيات يدعونك عن طريق الإغراء إلى التحرش بهن من خلال لباسهن الفاضح، مشيرا إلى أن سلوك التحرش مرتبط أكثر بفئة المراهقين. وإذا كان كريم قد صرّح أن ذلك قد يرتبط بسن معين، ف”وليد” طالب جامعي، يرى أن خطورة التحرش الذي بات “ظاهرة” تكمن في وجود أشخاص في سن متقدم ويتحرشون بفتيات في العشرينيات من العمر، مشيرا إلى أن هذه الظواهر تدلّ على انحلال أخلاقي، قائلا:”التحرش في بعض الأحيان يتعدى اللفظي إلى اللمس، واستعمال ألفاظ تخدش الحياء”، ويضيف وليد.. أن كيف لشاب يسمح لنفسه بمعاكسة الفتيات لكنه في المقابل يرفض أن يرى أخته أو زوجته أو إحدى قريباته تتعرض لذلك؟!. ويسترسل في حديثه قائلا إن الفتيات في الجامعة يظهرن مفاتنهن ويتبخترن داخل الحرم الجامعي معتبرات أنفسهن مرتديات ملابس تتماشى وآخر خطوط الموضة، وإن نظر أحد إليهن فإنهن ينظرن إليه نظرة استغراب وكأنه شخص متخلف، فكيف يمكن لشبان اليوم غض الطرف، مطالبا حواء بالانتباه إلى ما تقتنيه من ملابس حتى تتماشى مع الضوابط المجتمعية والدينية، فمظهر بعض الفتيات يشجع ذوي القلوب المريضة - حسبه - على القيام هذه السلوكيات المرفوضة أخلاقيا ومجتمعيا وإنسانيا. لباس حواء مجرد ذريعة للمتحرش.. في حين يعتبر “العم رشيد”، سائق سيارة أجرة،أن التحرش الجنسي ظاهرة دخيلة على المجتمع، فالملابس القصيرة أو الضيقة ليست السبب الرئيسي كما يدّعي الكثيرون، بدليل أنه في الخمسينيات - مثلاً - كانت بعض السيدات ترتدين الملابس القصيرة والضيقة ونادراً ما كانت تحدث التحرشات، وإنما كانت مجرد حالات استثنائية، فالمشكلة تكمن - حسبه - في غياب الوازع الديني وانعدام التربية، وما يدلّ على ذلك أننا نرى رجالا لا يتعرضون لمن تلبس القصير والضيق، لأنهم تعلّموا منذ الصغر احترام حرية الآخرين. وعكس ذلك تجد البعض منهم يعترضون طريق اللواتي يرتدين لباسا محتشما، وهو ما يدّل على خلل ما في شخصية المتحرش - يضيف العم رشيد - قائلا إن ممارسة هذا الفعل من قبل البعض ما هو إلا ممارسة واضحة للقهر من الطرف الذي يعتقد أنه الأقوى تجاه الطرف الآخر، فهناك من الرجال من يتحرش بالمرأة بدافع إذلالها واحتقارها بدليل أن الرجل لا يتحرش بأي امرأة، لكنه يختار ضحاياه ويحدد طريقة التحرش بها هل لفظيه أو إيحائية أو احتكاك مباشر؟؟ وفي ذات السياق تفنّد الكثيرات من المحجبات اللواتي تحدثت إليهن “الفجر” الكلام القائل إن الحجاب يقي المرأة من لسان ويد الشبان المستهترين، حيث تقول أمال، طالبة محجبة، “إنه حقا لأمر جنوني ما يحدث في شوارع مدينة الصخر العتيق، لقد تغيرت الكثير من القيم المجتمعية..”. سألناها هل تتعرضين للمضايقات وأنت المحجبة فرّدت: “أكيد، فالعديدات من المحجبات يتعرضن للمضايقات والمعاكسات في الشارع القسنطيني، هؤلاء الشبان يعاكسون البنات المحجبات والمتبرجات على حد السواء، فهذا الفعل المخل بالحياء لا علاقة له بالحجاب، فأنا أرتديه لكنه لم يجعلني بمنأى عن هذه الاعتداءات التي تطالني يوميا”. الفتاة بين مطرقة الحرية الشخصية وسندان التحرش تروي لنا خليدة، موظفة بمؤسسة تربوية، أحد المواقف المتعلقة بهذا الشأن قائلة “بينما كنت برفقة أختي بأحد الأسواق الشعبية فوجئت بأحد الباعة يرمقني بنظرات غريبة لم أعره أهمية في بادئ الأمر، غير أن تفوهه بكلام يخدش الحياء جعلني أنهال عليه بوابل من السباب والشتائم”. وإذا كانت خليدة تتمتع بالجرأة الكافية لتعنيف المتحرش، ف”عفاف” الطالبة الجامعية، تحبذ عدم إبداء أي ردة فعل لأن ذلك قد يكلفها الكثير، قائلة في السياق ذاته: “يستخدم شبان في بعض الأحيان كلمات نابية ومسيئة، وإذا دافعت الفتاة عن نفسها فقد يكون مصيرها الدخول في دوامة من المشادات الكلامية التي قد تنتهي بالاعتداء عليها ضربا”. وتعتبر عفاف أن تعرض المرأة في الشارع والأماكن العامة للمضايقات التي تمسّ كرامتها يعتبر انتهاكا واضحا لحرية الآخر، مسترسلة في القول: “حريتي تنتهي عندما تبدأ حرية الآخرين، وهو الأمر الذي يتجاهله الشاب الممارس لهذا السلوك العدواني”. وتعترف “مريم”، موظفة بأحد مكاتب الدراسات الخاصة بقسنطينة، ما للملابس غير المحتشمة من تأثير كبير داخل الوسط الوظيفي، قائلة إنه يتوجب على المرأة مراعاة اختيار ملابس محتشمة تليق بمكان العمل أو الدراسة لما لها من انعكاسات سلبية عليها وعلى المحيطين بها، لأن ضوابط المحيط تفرض عليها الخروج من إطار الحرية الذاتية. غرور “حواء” يجعلها أحيانا تدفع الثمن باهظا وعن مدى الارتباط بين المظهر والجوهر، والرسائل التي تحاول بعض النساء إيصالها إلى الآخرين من خلال المظهر، تؤكد الأخصائية في الطب النفسي “ف. سهيلة”، أن هذه الرسائل قد تكون خاطئة تماما ولا تعني دعوة الرجل إلى التحرش بها، وإنما تمثل ثقافتها وطريقتها في التعبير عن نفسها، قائلة إن بعض النساء يحبذن ارتداء هذا النوع من الملابس، وقد يكون ذلك في بعض الأحيان بهدف إرضاء غرورهن، وليس بالضرورة بهدف جذب “آدم” إليهن، وبالتالي فقد يخطئ المتلقي فهم هذه الرسائل بصورة عكسية. في المقابل، تقول محدثتنا”قد لا تعني الملابس المحتشمة أن السيدة أو الفتاة على درجة عالية من الالتزام الأخلاقي، فقد تكون وسيلة للجذب في بعض الأوقات، فالمظهر في هذه الحالة لا يعني التزاما أخلاقيا بأي حال من الأحوال، ففي بعض الأحيان يسعى الرجل وراء السيدة المحتشمة المتحفظة لإثارة سخطها واستفزازها. الخلاص في التنشئة الأسرية السليمة “الفجر”سألت الأستاذ في علم الاجتماع بجامعة قسنطينة، بن الشيخ نور الدين، عن اقتران مظهر الفتاة بما يلحقها من سلوكيات عدوانية وسط الشارع القسنطيني، فقال: “الشارع حق للجميع، فهو مكان عام وليس خاصا ليفرض الشاب قوانينه الذاتية ويجبر الناس على ارتداء ما يريد، فالمشرع الجزائري أعطى الحق لكل المواطنين في حرية الملبس والمظهر، أكيد هناك حدود وضوابط أخلاقية لا يجب التغاضي عنها، لكن ما يحدث أن الشاب الممارس لهذا السلوك يتجاوز حدود المعقول، فهو يعاكس الفتاة لا لأنها حادت عن الأخلاق، وإنما للأمر علاقة بشخصيته هو في حد ذاته، لا بمظهر هذه الفتاة، وإلاّ لكانت المتحجبات بمنأى عن تطاول الشباب في الشارع.ولا يشكك الدكتور بن الشيخ في ما يلعبه ضعف الوازع الديني من دور أساسي في ظهور هذه الانحرافات الأخلاقية والسلوكية، خاصة بين أوساط المراهقين، وذلك لعوامل عدة أهمها التفكك الأسري ومجالسة رفقاء السوء وغياب القدوة الذكورية داخل الأسرة، ومعاقرة الخمور وإدمان المخدرات التي زادت في حدة هذه السلوكيات المشينة، بالإضافة إلى التغيرات التي طرأت على مجتمعنا المعاصر، “فدخولنا عصر العولمة والأنترنت والفضائيات فتح المجال لاستفحال هذه السلوكيات التي لم تكن تطبع مجتمعنا القسنطيني المحافظ في وقت مضى، فالخلاص من هذه المعضلة الاجتماعية - حسبه - يكمن في ضرورة التقيد بالأخلاق الحميدة وقيم ديننا الحنيف التي مفادها تهذيب النفس البشرية، ولن يتأتى ذلك إلا إذا عمدت الأسرة إلى تنشئة أبنائها ذكورا وإناثا تنشئة اجتماعية سليمة.