من العادات المألوفة لدى شعب فلسطين وأبنائه في المؤسسات الوطنية الفلسطينية، بكل تشكيلاتها، هو الوفاء لأولئك القادة المندمجين بقضايا ومصالح شعبهم الحيوية، لدرجة أننا في الكثير من الأحيان نتساءل: هل فعلا إننا قد اكتشفنا هذا القائد أو ذاك بعد استشهاده فقط؟..حيث نكون بالمعنى العام مشدودين إلى توجيه الأسهم الإنتقادية في فترة ممارسة المهام الوطنية لهذا القائد أو ذاك، ولا تكاد تخلو جلسات الكادر الفلسطيني من هذا المناخ بأغلب مستوياتها، وهذا لا يعني عدم رؤية الايجابيات أو عدم تقدير التفاني في العمل النضالي، بطبيعة الحال فالأمر مرتبط هنا بالقادة الحقيقيين دون غيرهم فما بالك بقائدهم أبو عمار الذي فرض عليه الرئيس السابق لحكومة الاحتلال الحصار لفترة طويلة ولم يرفعه إلا بتدمير مقره في المقاطعة بمدينة رام الله يوم 09/ 09/ 2002، ثم واصل ملاحقته بوتيرة "الثأر والانتقام"، إلى أن تمكن من تسميمه بمادة البولونيوم حيث وافته المنية بمستشفى بيرسيه العسكري بفرنسا يوم 11/ 11/ 2004، هذه الجريمة الصهيونية التي حاولت باغتيال هذا القائد أن توجه ضربة قاسمة لمسيرة شعبه ثم تطوي ملفه كتجربة...لكن ها هو شعب فلسطين مع إخوانه ورفاقه يحيون سنويا ذكراه، مستخلصين العبر والدروس، ومن جانب آخر لم يطوى ملف الجريمة الذي أعيد فتحه على مستوى إقليمي ودولي من عدة أشهر ولازال قيد المتابعة، إلا أن الجريمة الاستعمارية الأكبر كانت يوم احتلال الجزء الرئيسي من فلسطين يوم 15/ 05/ 1948 وما رافقها من مجازر وإرهاب ضد شعب فلسطين حتى هذه اللحظة. أولا: أبو عمار وشعبه: لقد جسدت تجربة أبو عمار دوره وسط شعبه، بل كان أبو عمار رمزا وعنوانا رئيسيا من عناوينه لأن هذا الشعب هو صانع الرجال والأبطال والقادة وعلى رأسهم أبو عمار، جورج حبش، الشيخ أحمد ياسين... إلخ، هؤلاء القادة الذين تعلموا من شعبهم قوة الإرادة، قوة الصمود والتمسك بالثوابت ومواجهة التحديات مهما كانت في سبيل ذلك، بالتالي حازوا وسط هذا المنحى على ثقة شعبهم، لقد كانت البوصلة الدائمة للرئيس الشهيد موجهة نحو المشروع الوطني في المرحلة التاريخية المحددة وعناوينه: حق العودة وتقرير المصير وإقامة الدولة المستقلة وعاصمتها القدس. كان شعبه يحتضنه وقت الشدائد بل كان ملجأه، كلما علت وتيرة صمود أبو عمار وتمسكه بالثوابت كلما زاد الالتفاف الشعبي حوله، هكذا خرجت المظاهرات الليلية في جميع المدن الفلسطينية متحدية الحصار الإسرائيلي المفروض حول رئيسها، ضاربة بعرض الحائط قرارات منع التجوال قارعة الطبول..دعما لأبي عمار في لحظة كان يحتاج بها لهذا الدعم الشعبي الذي كان عاملا هاما من عوامل تراجع شارون عن ترحيله أو التخلص منه في تلك الأيام. ثانيا: أبو عمار.. المقاومة والمفاوضات: لقد تمكن أبو عمار من الجمع في مرحلة تاريخية بين المفاوضات كخيار مفروض على الوضع الفلسطيني بحكم التطورات السياسية وبين المقاومة وهي نقيضة للمفاوضات بصيغتها التي كانت ولازالت مطروحة بالرغم من حصره للمقاومة في المناطق المحتلة عام 1967 إلا أنها كانت تجربة جديرة بالدراسة، لاسيما وأنه دفع حياته ثمنا لخياراته الكفاحية، ولأن دولة الاحتلال الإجلائي باتت تستخدم المفاوضات لتحقيق مخططها التصوفي في إطار استنزافها للاتفاقيات الموقعة والتي كانت بالأساس مخاض للتحولات الكبرى الإقليمية والدولية التي حصلت بعد حرب الخليج الثانية في مطلع التسعينات من القرن الماضي واقترنت بفرض الحصار على الحركة الوطنية الفلسطينية بقيادة منظمة التحرير الفلسطينية، والتي لازالت مستهدفة في سياق تلك التحولات، بهذا الإطار كان اتفاق أوسلو "شهر 09/ 1993" نتاج للمعادلات الجديدة التي أفرزتها تلك المرحلة، والكل الفلسطيني يتذكر كيف أن مفاصل الحالة الفلسطينية قد اهتزت من جراء التوقيع على ذلك الاتفاق ولم يصار إلى لملمة تلك النتائج والتداعيات إلا عبر انطلاقة انتفاضة الحرية والاستقلال، مما رسم وقائع جديدة وأعادت الحيوية للعمل الوطني الفلسطيني في تلك الفترة. مهما كان الاختلاف بين المراحل إلا أن مفاعيل المقاومة المتنامية والواسعة في تلك الفترة أيضا قد أثرت أو فرملت من الاندفاع الصهيوني بقضم أراضي الضفة وتوسيع الاستيطان وكان الرئيس الراحل:-يشي أحيانا لبعض رفاقه من القيادة الفلسطينية بالقول "إنني كمن يسير وسط شارع عريض أشعر أن المفاوضات على يميني والمقاومة على يساري أحتاج لهذه أحيانا.. وللأخرى أحيانا". ثالثا: أبو عمار والوحدة الوطنية: يمكن القول بكل وضوح أن الاختلاف السياسي وسط القوى الفلسطينية كان على أشده في مرحلة أبو عمار، ورغم خطورة القضايا المختلف حولها إلا أن الساحة لم تشهد اللجوء إلى السلاح في حسم التعارضات الداخلية، أو لفرض السلطة، وبقي التناقض الرئيسي لمجمل الساحة مع الاحتلال الاستعماري بل إن الانتفاضة الثانية 2001 كشكل نضالي موحد أعادت الأمور إلى نصابها..للقواسم المشتركة، من جانب آخر كان لأبو عمار دورا "سحريا" في لجم التعارضات الداخلية لحركة فتح التي أسسها مع إخوانه، كان أحدثها ولم يكن آخرها ما حصل من مظاهرات في قطاع غزة قبيل رحيله، قادها بعض رموز فتح في تلك الأيام وكادت إن تهدد حركة فتح، إلا أن قدرة أبو عمار على التعامل مع الحدث الداخلي مكنته من امتصاصها... إلخ هناك الكثير مما يحكى عن هذا القائد الذي له ما له..وعليه وما عليه، لكن بصماته على الحركة الوطنية الفلسطينية بمراحلها المختلفة والتي عاشها سوف تفيد الأجيال القادمة من حملة راية المسيرة الكفاحية المستمرة لشعبنا. لقد قاد أبو عمار مرحلة وورشة الإعلان عن دولة فلسطين في دورة المجلس الوطني الفلسطيني المنعقدة في الجزائر يوم 15/ 05/ 1988، وساهم في النقاشات التي دارت في مؤسسات منظمة التحرير الفلسطينية وتحديدا في مجلسها المركزي عام 2001 حول: - إمكانية تجسيد دولة فلسطين على أرضها، وانطلقت الانتفاضة الثانية ضمن ذلك التحدي المؤجل.. في هذه الأيام في يوم 15/ 11 أو في يوم 29/ 11 من الشهر الجاري سوف يرفع الطلب الفلسطيني للأمم المتحدة لجمعيتها العامة من أجل الحصول على العضوية "غير الكاملة" لدولة فلسطين في الأممالمتحدة.. بانتظار نتائج التصويت التي تحاول الإدارة الأمريكية إفشاله بكل ثقلها. إن الحصول على هذا المكسب يفترض أن يكون خطوة مهمة على طريق تجسيد الدولة الفلسطينية على أرضها وكعنوان من عناوين البرنامج المرحلي، ضمن هذه المستجدات يتم إحياء ذكرى استشهاد أبو عمار وإخوانه ورفاقه من الشهداء.