لا شك أن السياسي والحقوقي التونسي شكري بلعيد، راح ضحية سياسة خلط الأوراق، التي تمارسها حركة الغنوشي، التي تعيش هذه الأيام انفجارا داخليا. ويتحدث الشارع التونسي عن وجود حركتين للنهضة وتجاذب بين رئيس الوزراء الجبالي، وبين زعيمها الغنوشي، الذي يعاني مرضا مزمنا. وقد يكون مقتل شكري بلعيد، وما تخطط له أطراف بوزارة الداخلية من اغتيالات أخرى مثلما تحدث عن ذلك إعلاميون ورجال سياسة عقب مقتل الرجل، هو إبعاد الأنظار عما تعيشه الحركة من صراعات داخلية، ومن فشل في تحقيق ما وعدت به الشعب التونسي، من حلول للمشاكل الاجتماعية والاقتصادية. فإغراق تونس في الفوضى سيطيل في عمر النهضة في الحكم، حسب النظرة الضيقة لزعيمها. لكن التيار الديمقراطي واليساري التونسي الواعي بتلاعبات النهضة ورغبتها في التمسك نهائيا بالحكم، والذي أظهر تلاحما ووعيا أمس في الجنازة المهيبة لشهيد الديمقراطية في تونس، سيفسد حتما على الغنوشي هذا الحلم، وبالفعل فقد بدأ الشعب التونسي بدوره ينتبه لمخاطر هذا التيار ونفاقه، والدليل فشل المسيرة التي دعت إليها حركة النهضة أمس، في شارع بورقيبة، والتي حاولت من خلالها جس نبض الشارع ومدى تمسكه بالحركة، فإذا بها تمنى بالفشل. وشتان بين مسيرة ضمت بضع مئات من أنصار النهضة، وبين جنازة عفوية ضمت مليونا ونصف مليون تونسي من كل الأعمار، رجالا ونساء وأطفالا، جاءوا ليعلنوا رفضهم ليس للنهضة كمشروع فقط، وإنما ليقولوا للغنوشي ما قالوه قبله لابن علي، تونس ليست أرضا للعنف والعداء، وإن الشعب التونسي الذي تربى على الفكر البورقيبي المتحرر، لن يسمح للمال القطري أن يعبث بتونس وبمستقبل الشعب التونسي. وكأن دوي الرصاصات التي اغتالت بلعيد، أصحت الشعب التونسي، وكانت بمثابة ديكليك أسس لثورة جديدة في تونس، ثورة مضادة ومناهضة للتيار الإخواني وعملائهم من التيار السلفي. وبقدر ما كانت الأعين دامعة والقلوب يعتصرها الألم أول أمس، في مقبرة الجلاز، بقدر ما اكتشف التوانسة وبسعادة غامرة أن دماء شكري لم تذهب هدرا، فها هو يوحد التوانسة ضد ما تخفيه لهم النهضة من حقد وغدر. اكتشفوا أن قوتهم في وحدتهم أمام الإمارة الدينية التي تريد قطر فرضها في هذا البلد. ليس هذا فقط، فقد لعب الإعلام التونسي بفضائياته الوطنية دورا مهما في الدفاع عن مستقبل تونس، وكشف مؤامرات النهضة، وما تخطط له لإفراغ تونس من نخبتها بخنق كل الأصوات الواعية المنددة بالمشروع النهضوي، وإرهاب البقية وإجبارها على مغادرة البلاد مثلما فعل أمثالهم في الجزائر، التي أجبرت نخبتها الناجية من جحيم الإرهاب على الهجرة إلى فرنسا، فكانت النتيجة إفراغ البلاد من طاقاتها. تونس تعيش اليوم امتحانا عسيرا، لكن كل بوادر الانعتاق من قبضة النهضة متوفرة، خاصة بعد الفشل الذريع في عرض عضلاتها أمس، في شارع بورقيبة ومحاولتها الرد بمظاهرة على جنازة شعبية عفوية؟!