إذا كان ثمة ملاحظة عامة يمكن استخلاصها من لقاء مجموعة الدول الثماني في بلفاست فقد تكون استعداد رؤساء الدول الديمقراطية ل”مراعاة” رئيس الدولة الأوتوقراطية الوحيدة في المجموعة، فلاديمير بوتين، إلى حد التنازل، في بيان القمة الختامي، عن إدراج أحد مواقفهم الثابتة من التسوية السورية المقترحة: تنحي الرئيس بشار الأسد عن الرئاسة. قد تكون رغبة الغرب، عامة، والإدارة الأميركية تحديدا، في تجنب تحويل النزاع السوري إلى حرب باردة ”بالوكالة” بين الغرب الشرق، الدافع الدفين لموقف القمة الباهت من الثورة السورية. وهذه الرغبة كشفها علنا الرئيس باراك أوباما، بعد يومين فقط على اختتام أعمال القمة، في دعوته روسيا، من ساحة برانديبورغ في برلين، إلى طي صفحة الحرب الباردة والتفاوض على خفض السلاح النووي ”بهدف تجاوز المواقف النووية للحرب الباردة”.توقيت طرح الرئيس الأميركي لدعوته يبرر سؤالا مقلقا هو: هل بدأ تدويل الأزمة السورية بعد قمة الثماني في بلفاست؟ واضح أن أولوية السياسة الخارجية للإدارة الأميركية لا تزال ميزان القوى النووية مع روسيا - علما بأن الدولتين تملكان، وحدهما، 95% من السلاح النووي في العالم. وواضح أيضا أن الإدارة الأميركية، رغم خلافاتها السياسية مع روسيا حيال النزاع السوري، ترغب في الاحتفاظ ”بعلاقة عمل” مع الرئيس بوتين تسمح لها باستئناف الحوار معه حول التوصل إلى خفض جديد لترسانة الدولتين النووية، فبعد أن توصل أوباما إبان ولايته الأولى إلى اتفاق مع روسيا يسمح للدولتين بالاحتفاظ بألف وخمسمائة رأس نووي يتطلع حاليا إلى خفض جديد يترك للدولتين حق الاحتفاظ بنحو الألف رأس نووي. ربما يتوق الرئيس أوباما إلى شهادة التاريخ بأنه كان الرئيس الأميركي الأكثر توسلا للمنحى السلمي في سياساته الخارجية. والواقع أن الرئيس أوباما نال هذه الشهادة باستحقاق منذ سحب القوات الأميركية من العراق في ولايته الأولى ويكرس استحقاقها اليوم بإجرائه مفاوضات سلام مباشرة مع الجهة التي كانت لعقود من الزمن رائدة ”الإرهاب الدولي”، أي حركة طالبان. إلا أن الاهتمامات الراهنة للإدارة الأميركية تثير في الشرق الأوسط سؤالين محيرين: أولا، لماذا هذا الاهتمام المفاجئ بالترسانة النووية الروسية في وقت تطغى فيه الأزمات الإقليمية والتوتر المستجد على العلاقات الأميركية - الصينية على احتمالات عودة السخونة إلى الحرب الباردة - والخجولة - مع روسيا؟ وثانيهما، هل تعني ”مراعاة خاطر” الرئيس الروسي فلاديمير بوتين أن على السوريين انتظار مؤتمر سلام تعالج فيه الدول الكبرى خلافاتها المتبقية قبل أن تطلق مبادرة تسوية جدية للنزاع السوري؟ إرجاء مؤتمر ”جنيف 2” إلى أجل غير مسمى يحتمل الكثير من التأويلات، فهل سيكون مؤتمر السلام الدولي بينها – كي لا نقول ثمنها؟ من يتابع الجدل الدائر في واشنطن حول جدوى التدخل الأميركي في سوريا لا يسعه إلا أن يستنتج أن الرئيس أوباما لم يتخذ بعد موقفا رسميا منه، وأن قراره ما زال متروكا للعبة الديمقراطية في أروقة الإدارة. وأوضح دليل على ذلك ما نقلته صحيفة ”بلومبيرغ” قبل يومين عن خلاف بين ناظر الخارجية، جون كيري، ورئيس أركان الجيوش الأميركية، الجنرال مارتن دمبسي، حول فوائد وأضرار شن غارات على قواعد للنظام السوري تستخدم لإطلاق أسلحة كيماوية ضد الثوار السوريين. اختلاف الآراء، حتى ضمن الإدارة الواحدة، ظاهرة معهودة في الحياة السياسية في واشنطن.. ولكنها، على صعيد آلية اتخاذ القرار السياسي، عقدة النظام الأميركي تجعل القرار الرئاسي الفردي، بالمقارنة: ”ميزة” النظام الأوتوقراطي. والواقع أن مواقف واشنطن المترددة من الثورة السورية كشفت أن الولاياتالمتحدة تجمع بين دورين لا يسهلان تسريع اتخاذ القرار الرسمي خصوصا في ظل رئاسة تأنف التدخل المباشر في صياغته: دور الإمبراطورية القوية في الخارج الملتزمة بديمقراطية معقدة في الداخل.