بينما تطلق إدارة أوباما ما تسميه مراجعة لسياساتها الخارجية على أكثر من اتجاه ونحو أكثر من منطقة، تطرح تساؤلات كثيرة وفق مستويين بارزين: أولهما حجم ومدى التغيير الذي ستحدثه هذه الإدارة في السياسة الخارجية للولايات المتحدة، وثانيهما حول جدية هذا التغيير، ولاسيما أن هذه الإدارة وهذه المقولة تأتيان بعد سنوات حافلة بالخيبة العالمية من الولاياتالمتحدة الأميركية وأدائها السياسي والدبلوماسي وحتى العسكري. صحيح أن إدارة أوباما أطلقت مبدأ المراجعة، وصحيح أيضاً أنها أبدت وعلى لسان أوباما شخصياً استعدادها للحوار ومعالجة قضايا العالم بعين جديدة تحترم فيها حقوق الآخرين وثقافاتهم وتطلعاتهم، لكنه حتى اللحظة، المؤشرات لا تتطابق تماماً مع معاني ما أعلن عنه، ذلك أن أي حوار يستوجب بالضرورة الانطلاق بشفافية وبتقدير لمصالح الأطراف ومواقعهم، وبفهم واضح لظروفهم ومعطياتهم وبتأكد من أن مناخ الحوار أضحى جاهزاً، وهذا يقتضي بالطبع أن تبادر الولاياتالمتحدة إلى إطلاق الحوار على قاعدة مفادها أن تصنيفات الإدارة السابقة للآخرين كانت تصنيفات خاطئة، وأن تقييماتها كانت مغرضة، أرادت منها إدارة بوش تسويغ سلوكها تجاه هذه الأطراف. لقد صنفت الولاياتالمتحدة الأميركية سورية كدولة راعية للإرهاب لأنها أرادت ذلك، وليس لأن سورية فعلاً دولة راعية للإرهاب، وإدارة بوش عدت المقاومة إرهاباً، ليس لأن المقاومة هي إرهاب فعلاً، واتهمت إدارة بوش سورية بأنها لا تضبط حدودها مع العراق، وامتنعت عن تزويدها بما يحقق ضبط الحدود، وألقت بالعبء على سورية وحدها لأنها أرادت تحقيق أهداف سياسية من وراء هذا الاتهام، بينما لم يكن في يوم من الأيام هناك أي قرار سوري غير قرار ضبط الحدود وبحزم، رغم عدم توافر الإمكانات المالية أو التقنية لذلك، ورغم طبيعة الحدود المعروفة. واتهمت الولاياتالمتحدة سورية بالتدخل في شؤون لبنان، لأنها أرادت ذلك أيضاً لأسباب سياسية تخدم مشروع المحافظين الجدد في منطقة الشرق الأوسط، بينما أثبتت سورية بسلوك عملي خلاف ذلك، وكذب هذا الاتهام، وهذا غيض من فيض. سلوك إدارة بوش الذي كان سلوكاً عدائياً مملوءاً بالافتراءات والأكاذبب والاتهامات والتضليل، ولذلك فإن أي تغيير في السياسة الأميركية يجب أن يتضمن، صراحة وعلانية، تراجعاً أميركياً عن هذه الاتهامات الكاذبة، واجراءات عملية لإطلاق حوار جدي وحقيقي ومصلحي بين الدولتين، بحيث تبدو الولاياتالمتحدة الأميركية جادة أولاً برسم آفاق جديدة لسياستها بالمنطقة، ومشجعة لدول المنطقة لمناقشة كل القضايا الحساسة والأساسية بهدف تحقيق المصالح المشتركة. وتدرك إدارة أوباما مجدداً أن سورية لا ترعى ولا تنتج إرهابا، بل هي مقاتل حقيقي في مواجهة الإرهاب، وهي واحدة من الدول التي تضررت من الإرهاب بشكل مباشر وتدرك مخاطره جيداً، وتدرك أيضاً هذه الإدارة أن سورية تحترم القانون الدولي وتحترم سيادة الدول الشقيقة وغير الشقيقة، وتدرك أيضاً ان سورية اليوم قطعت أشواطاً في سياستها الرامية إلى بناء اقتصاد وطني منفتح متقدم يأخذ بعين الاعتبار كل المتغيرات المحيطة به، لكنها تدرك أيضاً أن لسورية أرضاً محتلة، وأنها تسعى إلى استعادة حقوقها المشروعة، وأن هذه المسألة هي هم وطني خالص ومطلب حقيقي وجدي لا رجوع عنه، وأن إسرائيل كيان معتدٍ ومحتل، وعليه التزام رد الحقوق إلى أصحابها، وبهذا تكون سورية، واقعاً وحقيقة، بمعزل فعلي عن الاتهامات التي أطلقتها إدارة بوش وثبت عملياً وواقعياً أنها لم تكن يوماً حقيقية، وإنما كانت ناشئة عن غضب بوش وفريقه من الموقف السوري ضد الاحتلال الأميركي للعراق، والذي عبرت عنه سورية سياسياً في أكثر من مناسبة، وإذ نسمي الأشياء بأسمائها فذلك لأننا تعاملنا دائماً مع مسألة العلاقات الدولية بلغة واضحة وصادقة وشفافة، والعلاقات الدولية كما نفهمها هي علاقات مصلحية أولاً بمعنى أن على الدول أن تراعي مصالح بعضها بعضا، ولا سيما عندما لا تكون مصالح دولة ما واقعة على حساب مصلحة دولة أخرى. فإذا كانت الولاياتالمتحدة الأميركية راغبة في ممارسة دورها كراع لعملية السلام مثلا، فعليها أن تتميز بالحيادية والنزاهة، ولكي تفعل ذلك عليها أيضاً أن تعلن أن حق المقاومة حقٌ مشروع، وأن الإرهاب مسألة مختلفة عن مسألة المقاومة، وعندها تكون الولاياتالمتحدة الأميركية جديدة ويكون التغيير الذي وعد به الرئيس أوباما حقيقة وليس مجرد كلام، وستجد الولاياتالمتحدة عندها عشرات دول العالم تتعاون معها ليكون التغيير عالمياً وواسعاً وليس فقط مجرد شعار ومقولة. موسكو بوابة السياسة الأميركية الجديدة كان مؤتمر ميونخ في العام 2007 هو المنبر الذي أطلق الرئيس الروسي السابق (ورئيس الوزراء الحالي) فلاديمير بوتين من خلاله صرخة الاعتراض على السياسة الأميركية في العالم. أمّا مؤتمر ميونخ الأخير لهذا العام، فكان المنبر الذي أشار فيه معظم المشاركين (ومن ضمنهم نائب الرئيس الأميركي جو بايدن) إلى أهمّية دور روسيا في قضايا الأمن العالمي، وإلى ضرورة التعاون معها لإنهاء سباق التسلّح الجديد في العالم، ولمعالجة موضوع الدرع الصاروخية الأميركية وقضية الملف النووي الإيراني بشكل خاص. فقد قرأ الرئيس بوتين جيداً ما حدث في الانتخابات الأميركية «النصفية» في نهاية العام 2006، وأدرك أن خسارة البيت الأبيض والحزب الجمهوري للانتخابات وفوز غالبية من الحزب الديمقراطي بسبب الحرب الأميركية على العراق، يعني أن تغييراً سيحدث ولو بعد عامين في السياسة الأميركية. وقد حدث ذلك فعلاً من خلال انتخابات الرئاسة الأميركية الأخيرة التي أوصلت باراك أوباما والحزب الديمقراطي إلى البيت الأبيض وأدّت إلى تحقيق الغالبية في مجلسي الكونغرس. وصحيح أن القيادة الروسية لم ترد سابقاً في مواقفها السلبية من إدارة بوش تصعيد الخلاف مع واشنطن، لكن هذه المواقف التي أعلنها الرئيس بوتين منذ عامين كانت بمثابة تقييم روسي دقيق للسياسة الخارجية التي سارت عليها إدارة بوش، والتي قامت على القوة العسكرية في معالجة الأزمات وعلى الانفرادية في القرار الدولي وعلى عدم احترام مرجعية الأممالمتحدة. لقد نظرت موسكو إلى السياسة الأميركية على أنها مصدر خطر مباشر على المصالح الروسية. كما حذّرت موسكو من سياسة واشنطن العاملة على نشر منظومة صواريخ في عدد من دول أوروبا الشرقية، واعتبرت ذلك تهديداً للأمن القومي الروسي. موسكو أدركت أيضاً أن الوجود العسكري الآن في منطقة الخليج العربي وفي أفغانستان وفي العراق وفي جمهوريات آسيوية إسلامية، هو بمثابة تطويق شامل للأمن الروسي يتكامل مع امتداد حلف الناتو في أوروبا الشرقية. وفاعلية الدور الروسي لم تكن بالضرورة عودة إلى أجواء الحرب الباردة أو إلى تصعيد التوتر بين موسكووواشنطن، لكن "الدب الروسي" سار بخطى ثابتة، ولو بطيئة، لاستعادة بعض مواقع النفوذ التي فقدها منذ سقوط الاتحاد السوفييتي. وقد حاولت إدارة جورج بوش في سنتها الأخيرة أن تزيد الضغوطات على موسكو من خلال العودة إلى سباق التسلّح ومحاولة إقامة نظام الدرع الصاروخية في بولندا وتشيكا. وبتحريض جورجيا، وبالسعي لضمّ دول جديدة لحلف الناتو، لكنّ موسكو واجهت كلّ هذا التصعيد بتصعيد مقابل وبأشكال مختلفة، ونجحت في تعطيل وتجميد معظم مشاريع إدارة بوش الموجّهة ضدّ روسيا. بل يمكن القول ان موسكو سجّلت نقاطاً لصالحها في هذه المواجهة السياسية التي استمرّت لعامين وامتدّ النفوذ الروسي إلى مواقع كانت محسوبة حصراً لصالح النفوذ الأميركي. وبينما كان الاقتصاد الأميركي يتدهور في العامين الماضيين، كانت روسيا تسجّل ارتفاعاً في مستوى الإنتاج الداخلي وصل خلال العقد الحالي إلى نسبة 80%. وفيما شهدت واشنطن تغييراً في الحزب الحاكم وفي التوجّهات المختلفة بين إدارة جديدة وأخرى رحلت، استمرّت موسكو تحت "الإدارة" نفسها رغم انتقال بوتين من موقع رئاسة الكرملين إلى رئاسة الوزراء، فما زال بوتين يمارس دوره القيادي للاتحاد الروسي بعدما فاز معاونه ميدفييف بمنصب رئاسة الكرملين. إذن، روسيا اليوم تقف على أرض صلبة وهي تحاور الإدارة الأميركية الجديدة التي تدعو إلى نهج جديد إيجابي يختلف عن نهج إدارة بوش. وتدرك موسكو أن واشنطن مضطرّة الآن لتغيير أسلوب سياستها الخارجية بعدما أوصلت الإدارة السابقة الكثير من الأزمات الدولية إلى طريق مسدود ممّا أضرّ بالمصالح الأميركية وبعلاقات واشنطن مع عواصم عديدة فاعلة بالعالم. كذلك تدرك واشنطن أن موسكو تملك مفاتيح أبواب كثيرة تريد إدارة أوباما أن تدخلها الآن برؤى وأساليب مختلفة عمّا كان سائداً في ظلّ الإدارة السابقة. وهناك الآن حتماً جملة من القضايا التي يتمّ التفاوض عليها بين موسكووواشنطن قبل أن يعلن الطرفان تراجعهما المتبادل عن مشاريع الدرع الصاروخي في أوروبا. فروسيا معنيّة بشكل مباشر في قضايا هي في سلّم أولويات إدارة أوباما؛ كموضوع الملف النووي الإيراني، والحرب في أفغانستان، ومستقبل التسوية السياسية في الشرق الأوسط، إضافةً طبعاً إلى موضوع حلف الناتو والعلاقات الأميركية-الأوروبية التي أصبح التأزّم الأميركي-الروسي هو حجر الزاوية فيها خلال الفترة الماضية. فإذا كان تخطيط إدارة أوباما هو دفع طهران للقبول برزمة الحوافز المقدّمة لها من أجل تجميد مشروعها النووي، فإنّ موسكو هي الطرف الدولي الوحيد القادر على الضغط على الحكومة الإيرانية من خلال مساعدة موسكو أصلاً لطهران في بناء المفاعل النووي واحتياجاته. لذلك، يصبح تحسين علاقات واشنطن مع موسكو هو المدخل للمفاوضات الجادّة مع طهران حول مستقبل مشروعها النووي. فقبل أن تدخل واشنطن في مفاوضات حاسمة مع طهران، عليها أن تحسم قضاياها مع موسكو أولاً. أيضاً، فإنّ تركيز إدارة أوباما الآن على الحرب في أفغانستان سيحتاج إلى تعاون من موسكووطهران معاً بحكم الجوار الجغرافي لهما والدور الأمني والعسكري الممكن لعبه من الطرفين في حال التنسيق مع واشنطن وحلف الناتو. فالأولوية الأميركية الآن في إعادة ترتيب ملفات السياسة الخارجية هي لملف العلاقات مع موسكو، وعن هذا الملف سوف تتفرّع قضايا دولية عديدة. لكن لن تنتظر إدارة أوباما الانتهاء من ملف حتى تفتح ملفاً آخر، وهي من أجل ذلك تعمل على أكثر من جبهة بما يُحسّن وضعها التفاوضي مع كل الأطراف. فالمفاوضات الأميركية المباشرة مع "حلفاء" كل طرف، سيعزّز مكاسب واشنطن مع الأطراف كلّها. وربّما هي المرّة الأولى، منذ بداية العقد الحالي، التي تجد فيها واشنطن وخصومها معاً «مصالح مشتركة» في وضع حدٍّ لحال التأزّم، وفي السعي لإيجاد تسويات سياسية لأزمات وحروب بدأت في مطلع العقد مع إدارة بوش، ولم ينهزم فيها من حاربت واشنطن كما لم يخرج فيها أحدٌ أيضاً بانتصار حاسم.