يقول ابن عطاء الله السكندري: ”ما وَقَفَ مَطْلب أنت طَالِبُه بِربك، ولا تيَّسَر مَطْلَبٌ أَنْتَ طَالِبُهُ بِنَفْسِك” والمعنى: لن تخيب في طلب أمر تسعى إليه مُعتمدا على توفيق الله تعالى مُتَبرِّئا من أوهام حَوْلِكَ وُقوَّتِك، بل سيكون التوفيق حَلِيفُك، ولن تُوَّفَقَ في تحقيق الهدف الذي تبتغيه من طلب تعتمد فيه على حيلتك وأوهام قدراتك، بل سيكون الخذلان هو المآل. تلك هي خلاصة معنى هذه الحكمة. ولكن لنتساءل من أين جاء ابن عطاء الله بهذا الكلام؟ وما هو مستنده في هذا القرار؟ إنَّ أجمع آية دالة على هذه الحقيقة الاعتقادية قول الله عز وجل:{ياأيها النَّاس أنتم الفقراءُ إلى اللهِ واللهُ هو الغنيُّ الحميد}. (فاطر). والفقر المقصود هنا بكل أشكاله وأنواعه، فالإنسان فقير في طاقته وجهده، وفقير في علومه وَمَدَاركه، وفقير في كل ما يحتاج إليه من مال ونحوه.. إن تحرك فَبِقُدرة الله يتحرك، وإن سعى في مناكب الأرض صانعاً زارعاً بانياً، فبتوفيق وبحول من الله تعالى يفعل ذلك كله وإن أدرك وتعلم واكتشف خفايا المكوَّنات فَبِمِنْحَةٍ من علم الله ينال ذلك كله قال تعالى:{ولا يحيطُون بشيء من علمِه إلا بما شاء}. (البقرة)، فقد نسب الله إلى ذاته العَلِّية ما قد يعده الإنسان علماً اقتبسه أو اكتشافاً ظهر له أو إبداعا يتباهى به، مُقَرِرًا أن ذلك كله ليس إلا مِنحة يَمْنَحُه الله إيَّاها من خزائن علمه. وأجمعُ كلمة دالة على هذه الحقيقة ما عَلَّمنا إياه رسول الله صلى الله عليه وسلم، قوله:”لا حول ولا قوة إلا بالله”. وانظر في ذلك أيضا قول النبي صلى الله عليه وسلم:”المؤمن القوي خير من المؤمن الضعيف، وفي كُلٍ خير،احرص على ما ينفعك، واستعن بالله ولا تعجز، وإن أصابك شيء فلا تقل لو أني فعلت كذا كان كذا وكذا ولكن قل: قدّر الله وما شاء فعل، فإن لو تفتح عمل الشيطان”. رواه مسلم تأمل في قوله: ”استعن بالله ولا تعجز”، قدم الأمر بالاستعانة بالله عز وجل ثم تأتي الخطوة التي تليها متمثلة بالنهوض إلى العمل وطرد أسباب العجز. فالله في عقيدتنا قَيُومٌ على كل شيء، حتى حركاتك وسكناتك هي من عنده تعالى، فالقدرة تفد إليك عند الحاجة الآنية لاستعمالها.. أي أن رعاية الله للإنسان موصولة به باستمرار، كاستمرار الأسلاك الكهربائية بالمولد، ولله المثل الأعلى. وشأن كثير من علماء الطبيعة جعل علاقة الأسباب بالمسببات علاقة حتمية، لكن العلاقة في حقيقة الأمر تكونت نتيجة العادة وإلا كيف تخلَّفت النار عن حرق سيدنا إبراهيم. والثمرة التي تعود على الإنسان من هذا الاعتقاد، أنه سيكون دائمًا مع الله عز وجل، في سائر حركاته وسكناته وأنشطته وأعماله المختلفة التي يقوم بها.. أي لا يَغيب عن باله أنه فقير في كل تحركاته إلى معونة الله وإمداده، وسيحمله هذا اليقين على الاستعانة به عز وجل،كلَّما أقدم على عمل ما،و الدوام على ذكره بعد أن أيقن أنه لا يتحرك إلا بقوته. وهذا هو معنى الفِرار الذي جاء في الآية الكريمة:{ففروا إلى اللهِ إنِّي لكُم منهُ نذيرٌ مبينٌ}. (الذريات). ولكن قد تقول أنني درست ونجحت دون أن أعرف شيئا مما تقول، والجواب أن ابن عطاء الله يتحدث عن غياب التوفيق وليس عن انقطاع القدرة، فقد تتخيل أنك قد نجحت ظاهرا لكنك سَتُحرم ما كنت تهدف إليه من نتائج وغايات باطنا. كما أن ابن عطاء الله لم يوجه كلامه إلى الجاحدين الذين لا يؤمنون به فضلا عن عدم التزامهم بأوامره وشرعه فينطبق عليهم قول الله:{كلاً نُمِدَّ هؤُلاء وهؤُلاء من عطاء ربِّك وما كان عطاءُ ربِّك محظُوراً}(الاسراء)، فالكافر أو الملحد غير مخاطب بالتوفيق أصلا،ولهذا فهو غير مخاطب بفروع الدين،لكن السنن الكونية التي قلنا أنها على سبيل العادة، ماضية في المؤمن والكافر، فمن جد وجد، غير أن التوفيق لن يكون إلا لعباده المؤمنين. المرحوم الشيخ محمد سعيد رمضان البوطي (بتصرف)