ها هي الأمة الإسلامية، قد ودّعت ضيفا كريما نزل بساحتها، وموسما عظيما حل وافدا عليها، شهر عظيم جاء بخيراته وبركاته، يزيد المؤمن فيه حسناته، ويعمل جاهدا على رفعة درجاته. ما أجمل أيام شهر الصيام ولياليه حين ترى الناس مقبلين على فعل الخير، والمساجد مزدحمة بالمصلين، والتراحم تتضاعف صوره في مجتمع الباذلين المنفقين، والتعاطف في أرقى درجاته بين عباد الله الصائمين. لقد عشنا فيه أوقاتا جميلة، حافلة. بمسارعة الناس إلى الخيرات، ومضاعفة الأعمال الصالحات، والتسابق إلى المساجد لأداء الصلوات، والتزاحم في عمل النوافل وبذل الصدقات، فالنفوس قد أُترعت بروحانية، الشهر، والقلوب مملوءة بالمحبة والعطف. جاء رمضان، ومن الناس من عرف عظمة هذا الموسم، وقدر أوقات الشهر الكريم، فاغتنمها وزاد من عمله الصالح، وتضرع فيه بين يدي مولاه، وسأله المغفرة والعفو، ومحو الذنوب والسيئات، والعتق من النار فقدم فيه خيرا، فليحمد الله على ذلك، وليسأله الثبات على الطاعة، والمزيد من التوفيق للأعمال الصالحة. ومن الناس من دخل عليه الشهر، ولم يأبه بدخوله، ولم يقدر قيمة لحظاته، ونفاسة أوقاته، فلم يغير شيئا من نمط حياته، ولم يعدل طريقته في قضاء أوقاته، فأهدر هذا الموسم، وفرط في اغتنامه، فرحل شهر الصيام وهو غارق في غفلاته، فيحتاج هذا إلى محاسبة نفسه والتوبة إلى ربه، وفتح صفحة جديدة، وحياة يستغلها بالطاعة، ويوظف أوقاته في طلب مغفرة ربه ومرضاته. إن عباد الله الصالحين، وأولياءه المخبتين لا يزيدهم مرور المواسم الفاضلة إلا قربا من ربهم، ومضاعفة لأعمالهم، لأنهم مداومون على عمل الصالحات، في جميع الأزمنة والأوقات، وفي سائر الليالي والأيام، وهم متعلقون بخالقهم، لا يجدون اللذة إلا في مناجاته، ولا الراحة إلا بدعائه والتعرض لنفحاته، {تَرَاهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَاناً سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ} [سورة الفتح (29)]. قد غرس الله في قلوبهم حب الطاعة، فهم يؤمنون بأن العمل لا ينقضي إلا بانتهاء الأجل، {وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ} [سورة الحجر الآية (99) ] فالموت هو الذي يقطع عليهم الاستمرار في فعل الخيرات ولذة المناجاة. فسبحان من خالف بين قلوب العباد، وفرق بين الهمم، يمن على من يشاء بالهداية والتوفيق، ويصرف من أراد عنها. هاهم رهبان الليل، الذين أَلِفت قلوبهم الطاعة، وأحبت نفوسهم العبادة، يواصلون السير في طريقهم، ويداومون على العبادة في ليلهم ويومهم، قد واصلوا استغلالهم قطار الطاعة ليواصل بهم رحلته في طلب المغفرة والرضا، والفوز بالجنة وبلوغ دار السعداء، إنهم يصومون في هذه الأيام، لأن نبيهم صلى الله عليه وسلم، حثهم على ذلك بقوله: ”من صام رمضان، ثم أتبعه ستا من شوال، كان كصيام الدر”. رواه مسلم. وذلك فضل عظيم من الله تعالى، الذي يعطي على الحسنة عشر أمثالها، ذلك أن شهر رمضان بعشرة أشهر، فهذه الأيام الستة، كل يوم منها بعشرة أيام، مجموعها ستون يوما، فكان صيام رمضان والأيام الستة باثني عشر شهرا، وذلك عام كامل، فسبحان من لا تنقص خزائنه. إنها فرصة سانحة فاغتنمها، ولا تفرط في صيامها، واعزم على فعل هذه الطاعة قبل فوات وقتها، عسى أن تحظى بالقبول من خالقك ومولاك.