قدم المناضل الراحل أنري ألاغ الذي ودعنا من باريس في 17 يوليو المنصرم (*) خدمات جليلة للثورة الجزائرية، فضلا في قطاع الإعلام والثقافة من قبل الثورة إلى ما بعد استعادة الاستقلال.. فقد ساهم أثناء ثورة التحرير في كشف مخازي آلة التعذيب الرهينة بواسطة كتابه الشهير ”المساءلة” الذي استطاع تهريبه من سجن ”لودي” أواخر 1957.. واستمر عطاؤه في ظل الاستقلال بتأليف ”تاريخ حرب الجزائر” في 3 أجزاء بمساعدة زوجته وأربعة من رفاقه. وأكثر من ذلك، قدم لنا من خلال مذكراته الجزائرية صورة عن العلاقات المضطربة بين الحزب الشيوعي الجزائري وجبهة التحرير الوطني، من زمن ”مقاتلون من أجل الحرية” إلى أيام التقارب و”الاختراق”، قبل المعارضة و”المساندة النقدية”. ولحسن الحظ، أن جزائر الاستقلال لم تتنكر لجهود هذا المناضل الإنساني الكبير، فأعفانا نظام العقيد هواري بومدين مثلا من معرة اعتقاله وتعذيبه، كما حدث لعدد من معارضي انقلاب 19 جوان 1965.. ”مقاتلون من أجل الحرية” لم يستسلم الحزب الشيوعي الجزائري لقرار حله في 12 سبتمبر 1955، وتشميع صحيفة ”الجزائر الجمهورية” رغم استقلاليتها القانونية والتنظيمية عنه، فقد وجد نفسه مضطرا للدخول في السرية، وما لبث أن خطا خطوة حاسمة في تكريس القطيعة مع نظام الاحتلال الذي كشر عن أنياب القمع بطريقة سافرة: قرار المشاركة في الكفاح المسلح كحزب مواز لحركة جبهة التحرير الوطني، بعد أن كان تحفظ على قرار الالتحاق الفردي بجيش التحرير الوطني، كما جاء ذلك في البيان رقم 1 لجبهة التحرير. تجسد هذا القرار في تأسيس جناح مسلح للحزب، باسم ”مقاتلون من أجل الحرية”.. هذا الجناح الذي حاول أنري مايو تسليحه في ربيع 1956، بتهريب كميات من الأسلحة من إحدى ثكنات الجيش الفرنسي. حاول الجناح الشيوعي تكوين بؤرة مسلحة رئيسية ناحية عين الدفلى، لكن المحاولة لم تدم طويلا، بعد أن ضربت بقوة في بداية يونيو من نفس السنة، من خلال تصفية عدد من أبرز منشطيها: موريس لبان، ومايو شخصيا.. كانت قيادة الحزب ممثلة في الثنائي الصادق هجرس والبشير حاج علي قد أجرت أثناء ذلك عدة اتصالات بقيادة جبهة التحرير الوطني بواسطة رمضان عبان وبن يوسف بن خدة بهدف التوصل إلى توحيد أداة الكفاح المسلح، بدمج ”مقاتلون من أجل الحرية” في جيش التحرير.. وقد توجت هذه الاتصالات باتفاق، تلاه بيان من قيادة الحزب الشيوعي مطلع يوليو 1956، يعلن التحاق جناحه المسلح ”فرديا وجماعيا بجيش التحرير”.. كانت جبهة التحرير حريصة في التكتم على مثل هذه العلاقة، ما جعلها تشترط الاحتفاظ بسرية الاتفاق المذكور، لكن شريكها كان يهمها أن يطلع الرأي العام بالجزائر خاصة على ذلك، لذا بادر في مارس 1957 بنشر الرسائل المتبادلة بين الطرفين.. الأمر الذي أحرج جبهة التحرير إلى حد ما. طبعا كان النشاط السري للحزب الشيوعي يعني أنري ألاغ، باعتباره عضوا في مكتبه السياسي، ومديرا سابقا لصحيفة كانت على علاقة وثيقة به، وغداة اعتقال الأستاذ المساعد موريس أودان، طرق ألاغ باب شقته بساحة أول ماي، ولم يكن يعرف ذلك، فوجد الشرطة التي تراقب السكن في انتظاره.. كان ذلك في 12 يونيو 1957، وما لبث أن تلقفه المظليون لاستنطاقه بالعمارة الشهيرة في حي الأبيار.. ويخبرنا بالمناسبة أن هذا الوكر المشؤوم الذي شهد اغتيال المحامي علي بومنجل واختفاء رفيقه أودان يقع في شارع كليمنصو، وكان ما يزال في طور البناء. خضع المعتقل الجديد في هذا الوكر إلى عمليات التعذيب المعروفة، وكان مرشحا لنفس مصير أودان، لولا الضجة التي تلت اغتيال بن مهيدي وبومنجل، ورائحة التعذيب التي بدأت تزكم الأنوف حتى في باريس، فضلا عن أنباء القتل بدون محاكمة التي تفشت على أوسع نقاط، أثناء حصار العاصمة ابتداء من مطلع يناير من نفس السنة. بعد ”امتحان” الأبيار اعتقل بعض الوقت في معتقل لودي (المدية)، وكان معتقلا صغيرا به نحو 140 سجينا.. وكان قياسا بسركاجي مثلا سجنا ”نموذجيا” توجه إليه إدارة الاحتلال لجان التحقيق التي لا ترى شيئا فضلا عن وفود الصليب الأحمر الدولي التي تزور الجزائر بين الفينة والأخرى. ومن منجزات ”ألاغ” في فترة حبسه، مؤلفه الشهير، بعنوان ”المساءلة” حول التعذيب في حرب الجزائر، فقد حرر مسودته في لودي، وتمكن من تهريبها إلى باريس بمساعدة النائب العام لدى محكمة الاستئناف بالعاصمة والمحامي ”ماتاراسو”.. كان ذلك أواخر 1957، وصدر الكتاب في فبراير 1958 عن دا ر ”مينوي” لصاحبها جيروم لندن الذي وضع له العنوان الشهير.. أحدث الكتاب ضجة كبيرة، ما جعل السطات الفرنسية تسارع بحجزه.. وعلق عليه الاشتراكي فرانسوا ميتران بصحيفة ”ليكسبراس” في 6 مارس الموالي قائلا ”هذا الكتاب يمس بمعنويات الأمة”... أحلام تشي غيفارا... في الجزائر كان السجين أنري ألاغ - أسوة بعامة السجناء الجزائريين - عرضة لعمل دعائي مكثف من إدارة الاحتلال وقواتها المسلحة في الجزائر... وبلغت الحملة الدعائية ذروتها غداة الانقلاب على الجمهورية الرابعة في 13 مايو 1958، وعودة الجنرال شارل ديغول إلى الحكم على ظهر الدبابات، ناهيك أن أحد المسؤولين - أشار إليه الشاهد بكناية ”الفأر” الأبيض!... صرح بكل اعتداد وثقة : ”أن الحرب ستنتهي بفضل عودة ديغول خلال ثلاثة أشهر” ! طبعا تنتهي بهزيمة جبهة وجيش التحرير، وعودة الأمور إلى سابق عهدها قبل إعلان الثورة! ولم تكن الدعاية المضادة لتنظيمات جبهة التحرير - من خارج السجون وداخلها - كذلك مقتصرة في الرد على حملات العدو... وكان هذا الرد كثيرا ما يرتكز على أحداث مدوية، مثل عمليات ليلة 25 أوت من نفس السنة - التي هزت فرنسا ذاتها من شمالها إلى جنوبها - والإعلان عن تأسيس الحكومة المؤقتة للجمهورية الجزائرية الذي يخبرنا ألاغ أنه أثار حماسا كبيرا وسط السجناء والمعتقلين... مكث الشاهد رهن الاعتقال 3 سنو ات كاملة قبل محاكمته في يونيو 1960، ويذكر بالمناسبة صورة عن نفاق إدارة الاحتلال: لقد حاكمت معه في نفس القضية رفيقه موريس أودان بصفة ”هارب”! بعد المحاكمة بفترة، نقل إلى سجن ”ران” (فرنسا) الذي يقول عنه أنه ”مكان استراحة” قياسا بسركاجي، حيث يحظر على السجناء استعمال المرآة، فلم ير وجهه لذلك منذ أمد طويل! لكن رغم ”طيب” المقام في هذا السجن، فقد فضل الهروب ليلة 2 أكتوبر 1961، بفضل شبكات جبهة التحرير والعناصر اليسارية الفرنسية المساعدة لها.. وما لبث أن جدد الاتصال بقيادة الحزب بالجزائر، ممثلة في الرفيق الصادق هجرس الذي طلب منه أن يسارع وقد استعاد حريته وبتوجيه نداء إلى الأوروبيين واليهود.، لتحذيرهم من حملات الترهيب والفزاعة التي يتعرضون لها من لدن مجرمي عصابة ”أو. أ. آس” (المنظمة المسلحة السرية). أنجز ألاغ هذه المهمة، وتم فعلا توزيع النداء بالجزائر في شكل منشور سري. التحق إثر ذلك ببراغ (تشيكيا)، حيث كان استقر بها زميله في قيادة الحزب العربي بوهالي، ومكث هناك إلى غاية استقلال الجزائر، وقبل ذلك كاتب رئيس الحكومة المؤقتة بن يوسف بن خدة، معبرا عن استعداده لأداء المهام المطلوبة منه، فكان جوابه: قم بما يطلب منك حيث أنت ! وكان آذاك ضمن الوفد الخارجي للحزب الشيوعي الجزائري غداة استعادة الجزائر استقلالها وسيادتها. دخل ألاغ ليستأنف نشاطه السياسي والإعلامي في أجواء من الحماس، جعله ورفاقه يقبلون عن طيب خاطر قرار حكومة بن بلة حل حزبهم في نوفمبر 1962.. هذا الحل لم يمنع فعلا ألاغ من معاودة إصدار صحيفة ”الجزائر الجمهورية” بعد نحو شهر من ذلك... من الذين ساهموا في تنشيط تلك الأجواء الثائر الشهير تشي غيفارة الذي ينقل لنا الشاهد بعض مواقفه وآرائه... مثلا رفض توقيع صورته للمعجبين به قائلا: ”أنا لست من نجوم هوليوود”! ومن أحلامه أنه كان يرى في الجز ائر جسرا لتثوير القارة السمراء بكاملها. ولحسن الحظ أن الجزائر ساهمت في ذلك بقسط وافر.. وحسب الشاهد فإن تشي لم يكن يراهن كثيرا - من الناحية الثورية - على طبقة الفلاحين، ففي تقديره أن آفاقها النضالية محدودة، بما يمكن أن تحصل عليه من عقود ملكية! وكان من الطبيعي أن تتجاوب يومية ”الجزائر الجمهورية” مع الأجواء الحماسية التي كانت تميز فترة غداة الاستقلال مباشرة، وقد عبرت عن ذلك بشن حملات دورية على بذور الفساد التي كانت تحاول أن تثبت جذورها في الجزائر الجديدة... هذه الحملات ما لبثت أن أزعجت الرئيس بن بلة الذي لم يتردد في انتقادها جهارا قائلا في أحد تصريحاته.. لقد تحولت هذه اليومية ”من صحيفة تشرف البلاد إلى منبر يمارس التشويه المنتظم، ولا يرى في مسيرة الحكومة سوى الجوانب السلبية”! رأت الصحيفة في هذا التصريح ضربا من التهديد، فلم تتوان في الرد عليه بمقال يحمل توقيع أقطابها الثلاثة: ألاغ، بن زين، بوعلام خالفة. معارضة.. اختراق... مساندة ثورية.. في ظل التحضير لمؤتمر جبهة التحرير الوطني المنتظر عقده في منتصف أبريل 1964، بدأت تتبلور عدة قرارات سياسية هامة، منها اثنان يعنيان الحزب الشيوعي الجزائري مباشرة: 1 - ترسيم حل الحزب، بعد أن ظل ينشط في علانية نسبية - رغم قرار حله في نوفمبر 1962. 2 - دمج ”الجزائر الجمهورية” وصحيفة ”لوبابل” (الشعب) في يومية واحدة، ناطقة باسم جبهة التحرير الوطني.. وجاء مؤتمر أبريل ليؤكد ذلك فعلا. - بخصوص ”الجزائر الجمهورية”، اقترح الرئيس بن بلة على المؤتمر أن تصبح مؤقتا ناطقة باسم جبهة التحرير أسوة بصحيفة ”لوبابل” ريثما يتم قرار الدمج المنتظر. وقد رحبت إدارة اليومية بذلك، في افتتاحية بعنوان: ”شرف ومسؤولية”... ولم تكن تخفي ارتياحها للوائح الصادرة عن المؤتمر بصفة عامة، واصفة إياها ب ”اللوائح الجذرية”. وتعبيرا من قيادة الحزب الشيوعي عن ارتياحها لنتائج المؤتمر الذي قرر تحويل جبهة التحرير إلى ”حزب ثوري طلائعي”، لم تتردد ضمن هذه الآفاق في دعوة مناضليها إلى الالتحاق بالجبهة بصفة فردية. كانت القيادة تتأهب فعلا للإعلان عن حل الحزب، وإن لم يكن ألاغ موافقا على ذلك... وبناء على هذا الاستعداد والأجواء المتولدة عن المؤتمر ونتائجه، انطلقت عملية دمج ”الجزائر الجمهورية” و”لوبابل” تحت إشراف لجنة التوجيه لحزب جبهة التحرير التي كان على رأسها يومئذ الثلاثي حسين زهوان، صالح الوانشي، محمد حربي. وما لبثت أن ظهرت المعلقات المبشرة بالعنوان الجديد ”المجاهد” الذي كان مقررا أن يصدر العدد الأول منه في 5 يوليو 1965، بمناسبة الذكرى الثالثة للاستقلال... غير أن انقلاب 19 يونيو من نفس السنة، وما فتئ أن قلب الأمور رأسا على عقب، وكان من نتائجه الأولى : وقف ”الجزائر الجمهورية” عن الصدور، بدعوى دمجها - المنتظر - في مشروع ”المجاهد”، بعد أن تقرر حجزها ليلة الانقلاب. وقف عملية حل الحزب الشيوعي الجزائري التي كانت انطلقت ضمن الآفاق الوحدوية التي فتحها مؤتمر أبريل من العام المنصرم. وما لبث هذا الحزب أن وجد نفسه غداة الانقلاب طرفا فاعلا في معارضته، باسم ”منظمة المقاومة الشعبية” التي تشكلت على عجل، بالتحالف مع عناصر محسوبة على ”يسار” جبهة التحرير.. في إطار هذه الحركة الوليدة، تقرر أن يلتحق آلاغ بفرنسا، للتأسيس لها، وسط العمال المهاجرين الذين كانت نسبة المعارضين للانقلاب فيهم مرتفعة نسبيا... غير أن رد الانقلابيين العنيف حد كثيرا من هذا الطموح، لا سيما عقب حملة سبتمبر الموالي التي أسفرت عن اعتقال عدد كبير من العناصرالباقية داخل الجزائر، وفي مقدمتهم البشير حلاج علي رفقة كل من زهوان وحربي، وابتداء من 1966 ظهرت الحركة الشيوعية من جديد باسم ”حزب الطليعة الاشتراكية” الذي قرر بعد فترة ”مساندته النقدية” لنظام الرئيس بومدين بعد أن تبين وفاءه للخط الثوري التقديمي.. وفي هذا السياق ما لبث أنري ألاغ أن تصالح مع نظام الحكم المنبثق عن حركة 19 يونيو 1965، ومع الجزائر وثورتها الكبرى... وقد جسد ذلك في ثلاثيته حول حرب الجزائر التي صدرت سنة 1981، بالتعاون مع أربعة من رفاقه هم : أنري دوزون وجاك دوبونيس - وجان فراير وبيار أوديكي، فضلا عن مساعدة زوجته جلبرت. صدر ألاغ هذه الثلاثية الضخمة (حوالي 1850 صفحة) بكلمات مختصرة بليغة، أشار فيها إلى ”محاولة تسليط الأضواء على جذور حرب الجزائر التاريخية والوطنية والاجتماعية، وإبراز طرفي النزاع: من جهة عمي المستوطنين في تعلقهم اليائس بخرافة ”الجزائر الفرنسية”، ومن جهة ثانية إصرار الجزائريين وثباتهم العنيد في مسعاهم لاستعادة حقهم في أن يكونوا جزائريين. ومن الطبيعي أن يختلف الفريقان - كل بحسب منطلقه وزاوية رؤيته - في النظرة إلى الأحداث ونتائجها؛ في نظر الفرنسيين آخر الحروب الاستعمارية وأكثرها عنفا وأثرا، بينما يعتبرها الجزائر يون - رغم الأ حزان والمناكر والدمار - عنوان فخر واعتزاز، ولحظة تحطيم القيود التي سيكتب ملحمتها غدا مؤرخو الجزائر المستقلة”. (انتهى)