كان محمد التوري يدق برفق باب الزنزانة بين فينة وأخرى، بأمل إثارة اهتمام الجلادين بحال شريكه سالم الذي كان يتقلَّى جراء حمي عنيقة، بسبب التهابات متعددة في الأذنين وأطراف شتى من الجسم. لكن هيهات أن ينتبه الجلادون! فمن يحترف التعذيب والقتل لا يهمه طبعا إنقاذ المصابين! (*) * كان التوري، الذي ينتظر دوره في التعذيب، يخشى على جسمه الضعيف والنحيف أن ينهار في أول حصة تحت ضربات الجلادين.. ومع ذلك أخذ نصيبه منه، أسوة بزوجته التي اعتقلت معه كما علم سالم لاحقا.. طبعا جاء الجلاد بعد حين، لكن لا ليسعف المصاب، بل ليجره بعنف خارج الزنزانة. كان معه كلب فانقض على سالم ليعضه في يده، بعد أن لاحظ تلك الحركة العدائية. * مثل الجريح المريض أمام ضباط الاستنطاق وهو يئن من وطأة الألم المضاعف، سئل هذه المرة عن شخص سلمه وصديقه محمود (مسعودي) وثائق بالقرب من البريد المركزي.. تردد أول وهلة فانهالت عليه اللكمات والركلات من كل جانب... * وبعد أن استفاق من ذهوله قال: لعلكم تقصدون الوناس؟! وهنا استشاط كبير الضباط الجلادين غضبا، لأن صديقه محمود كان ذكر نفس الاسم قبله، ولأن الوناس كان قد استشهد! * في الحصة اللاحقة حقن سالم "مصل الحقيقة"، وجيء وهو تحت تأثير هذا السائل المخدر بأشخاص، يعتقد الجلادون أنهم شركاؤه في شبكة، تقوم بنقل تعليمات كبار المسؤولين في جبهة التحرير الوطني.. كان لقاء بدون نتيجة أيضا، لقاء جعل الضحية يتأكد مرة أخرى أنهم يخلطون بينه وبين شخص آخر هو صاحب الأدوار التي تنسب إليه خطأ! * أعيد إلى الزنزانة وهو في حالة يرثى لها، وقد اشتد عليه ألم أذنيه المقيحتين، وأحس أنه أصيب بالصمم، هذه الحال لم تمنعه من الرثاء لحال صديقه جُغْري الصحافي السابق "بالجزائر الجمهورية" الذي كان يستغيث من الألم في زنزانة مجاورة لكن ما من مغيث، وقد عرف سالم لاحقا أن جغري استشهد تحت التعذيب وينوه بالمناسبة ببعض خصاله، خاصة كونه رجل حوار بين الأقلية المستوطنة من الفرنسيين والأغلبية المسلمة من الجزائريين، وأنه كان من رفاق شخصيات يسارية مرموقة على غرار أنري ألاغ وموريس أودان ولوسيان حنون.. * * ساعة .. بن مهيدي * * كان سالم في نهاية المطاف أوفر حظا من صديقه جغري، فقد انتبه جلادو "دار سيزيني" إلى إصابته، فجيء بالطبيب لفحصه، وكانت النتيجة لا تقل إيلاما: احتمال إصابة أذنه اليسرى بصمم نهائي جراء تلف طبلها، ولحسن الحظ أن الأذن اليمنى تبدو سليمة رغم التهاب حاد.. * بعد فترة من التعذيب (بحوض الماء والكهرباء ونافث اللهب "ومصل الحقيقة" حان وقت مغادرة هذا الوكر الرهيب المسمى "دار سيزيني" واستعدادا لذلك جمع من جديد بصديقه محمود واثنين من مسؤولي منطقة العاصمة هما إبراهيم "الشرڤي" وهاشم (مالك) كان محمود مشوه الوجه، حتى أن سالم وجد صعوبة للتعرف عليه أول وهلة. ويذكر الشاهد أن إبراهيم تلقى مع محجوزاته هدية ثمينة: ساعة من بن مهيدي الذي أوصى قبيل إعدامه بتسليمها له.. وقد بدا لرجل الأمن أن يفحص الهدية جيدا، لعلها تخفي رسالة ما من القائد الشهيد! * وأخيرا نقل الأربعة إلى سجن بربروس (سركاجي)، تحت هاجس الإعدام المقنع "بمحاولة الهروب"... وحرصت إدارة السجن على تسجيلهم وكأنهم اعتقلوا في نفس اليوم! * كان ذلك في يونيو 1957 -على الأرجح-، وقد زج بهم في قاعة مكتظة، وكان حراس السجن يسمون السجناء السياسيين "المتآمرين"! * اكتشف سالم بسجن بربروس أن صديقه محمود لم يخرج سالما من وكر "دار سيزيني"، لقد أصيب بمرض استوجب نقله عدة مرات إلى المستشفى، ويكون الفحص أثبت أنه مرض بعيد الأثر، قد يلازمه مدى الحياة... * علم سالم قبيل المثول أمام المحكمة العسكرية بتهمة "المس بالأمن الخارجي للدولة" أنه ورفاقه سيحاكمون مع شبكة إسناد، تضم عددا من الأوروبيين المتعاطفين مع القضية الجزائرية، كما علم أيضا أن أصدقاءه بفرنسا انتدبوا للدفاع عنه -بالتنسيق مع جبهة التحرير- المحامية جنرال حليمي من سلك المحامين بباريس.. لكن إدارة الاحتلال منعت المحامية من الإقامة بالجزائر لأداء مهمتها، وقد عوضت في آخر لحظة بمحامي سلك العاصمة "بيار بوبي".. * كانت "الشبكة" تضم نحو 20 متهما -من جزائريين وفرنسيين- وكانت المحكمة العسكرية تعلِّب القضية في شكل "تواطؤ بين عناصر شيوعية ووطنية ورجال كنيسة، في إطار مؤامرة حبكتها قوى أجنبية"!. * واعتمد دفاع سالم خاصة على تاكتيك أن المتهم إنما يحاكم بسبب آرائه، وعلى أساس اعترافات انتزعت منه تحت التعذيب.. * ويبدو أن ملف سالم كان هزيلا، بدليل أن المحكمة حكمت عليه بسنة فقط من السجن النافذ، وبعد المحاكمة نقل إلى سجن "الواد" الذي يقال إنه من بقايا قلعة في العهد العثماني. وتم إيداعه في القاعة الرئيسية التي يقول عنها "إنها عبارة عن قبر كبير، حفر في سفح إحدى روابي غرب العاصمة".. * * إفراج .. تحت هاجس الاختطاف * * كانت نسبة الوفيات في هذا "القبر الكبير" تبدو مرتفعة، وكان سجناؤه يدفنونموتاهم في مقبرة مجاورة.. وكان هذا الجو الكئيب يضاعف من معاناة سالم، لا سيما أن كابوس "دار سيزيني" المرعب ظل يطارده في هذا الوكر الجديد. * وعندما اقترب أجل نهاية فترة السجن واجه سالم مشكلة أخرى: تأمين عملية الإفراج عنه، لأن مخابرات المتطرفين -من المستوطنين وامتداداتهم في جيش الاحتلال.. كانت كثيرا ما تتحين مثل هذه المناسبات، لاختطاف المفرج عنهم بدون رجعة، بدءا بالعناصر التي تقدر أنها "خطيرة" لوعيها الوطني أو لمستواها الثقافي.. وقد تطوع لتأمين الإفراج عنه صديقان فرنسيان "بول وجوليات" اللذان تمكنا من الاتصال بمدير السجن، والتوسل إليه كي يؤجل بلحظات إشعار السلطات العسكرية بنبأ الإفراج! وبعد نجاح هذه الخطوة الأولى كان على هذا الثنائي أن يتدبر أمر تهريبه إلى فرنسا -عبر مرسيليا- على جناع السرعة وبمجرد الإفراج عنه. وقد فعل "بول وجوليات" ذلك، دون أن ينسيا إحضار والدته وشقيقته -من الشلف- لاستقباله وتوديعه في آن واحد! * ركب محمد السفينة إلى مرسيليا، ورغم ما في ذلك من أمل النجاة فإن كابوس "دار سزيني" لازمه طوال الرحلة.. ما يبرر قوله: إن جميع الأوصاف التي تتضمنها لغات العالم "لا تكفي لوصف التعذيب.. الذي ينبغي الاجتهاد لإبداع وصف مناسب له".. ويتساءل في هذا الصدد " متى يعتبر التعذيب جريمة ضد الإنسانية؟!" * تولى أمن سالم انطلاقا من مرسيليا بعض الوقت ثلة من رجال الدين، يتقدمهم الأب "جبيل" من جماعة "رسالة فرنسا"، وقد كان بالجزائر وطرد منها لتعاطفه مع القضية. وكان قد تعرف على سالم "بالمراكز الاجتماعية" التي أشرفت على إنشائها ابتداء من خريف 1955 الباحثة الاجتماعية جرمان تيون، في عهد الوالي العام جاك سوستال. * كان تهريب سالم إلى فرنسا في صائفة 1958، قبيل الإعلان عن تأسيس الحكومة المؤقتة للجمهورية الجزائرية في 19 سبتمبر. وصادف ذلك بداية انتشار رائحة التعذيب الكريهة، في أعقاب نشر -وحظر- كتاب "المساءلة" لأنري ألاغ في ربيع نفس السنة.. وكان معارضو هذه الوسيلة غير الإنسانية يتندرون على التعذيب وممارسيه "بحكاية المناضلة" نيلِّي التي نطقت تحت التعذيب تستغيب بيسوع (السيد المسيح)، فظن الجلاد أنها باحت باسم شريكها! * * العذاب المجاني .. ما أقساه! * * يستكثر سالم في هذا الصدد فضل رجال الدين الذين ساعدوه في محنته، ولا يخفي إعجابه "بالآباء العمال" خاصا بالذكر جماعة سوق أهراس، وسواقفها الجريئة المناهضة للعنصرية والحروب الاستعمارية، ومن أقوال هذه الجماعة: "ليس هناك عرق سام ولا عرق دوني، هناك فقط رجال خطاؤون، يحبهم الله جميعا كأنهم أبناؤه، ومع ذلك لا ينسى أن يذكر بأن هناك من رجال الدين النصارى من ساهم عن قصد أو بدون قصد في التستر عن جرائم الاحتلال الفرنسي بالجزائر، باعتبار أن التعذيب حالة فردية أو استثنائية"! بل من هؤلاء من برر التعذيب دونما حرج! * تنقل سالم في حماية المتعاطفين مع القضية الجزائرية -من رجال الدين وغيرهم- من مرسيليا إلى الضاحية الشمالية لباريس مرورا "بأنجي" و"كامبرلي" قبل أن يلتحق بلوزان لاستئناف نشاطه النضالي، تحت راية "الاتحاد العام للطلبة المسلمين الجزائريين" الذي هاجرت قيادته إلى سويسرا بعد قرار حله مطلع 1958، ويتمثل هذا النشاط أساسا في المساهمة في التعريف بالقضية الجزائرية والوضع داخل الجزائر عموما في الأوساط الأوروبية المستنيرة من طلبة ومثقفين وفنانين... ومن الوجوه البارزة التي حاورها بكل من فرنسا وسويسرا، جرمان تيون، جيزال حليمي، شارل -أنري فافرو.. وكان له مع هذا الأخير خاصة حديث مطول، تجاوز الإطار السياسي ليفيض على الثقافة والفكر بصفة عامة.. * * ومن القضايا التي أثيرت بين الرجلين: * تصفية وتهميش النخب الوطنية وخطر وجود شعب حائر بدون قيادة حقيقية. * الأمن الإنساني وواجب حماية الغير "الذي يعتبره سالم بمثابة "التحدي الدائم في الحياة الذي يقتضي أن نزرع حب الغير فينا، لا سيما في فترات الاضطراب، وانعدام الأمن".. * يعتبر محمد سحنون -الذي نعود إليه في ختام هذه العجالة- شهادته في "جرح الذاكرة.. شهادة حول الألم والتضامن الإنساني".. الألم من "العذاب المجاني الذي يسلط على المرء من نظرائه.. والذي يعتبره من أشد أشكال العذاب قساوة.." * والتضامن الإنساني لكشف حقيقة القوة الهوجاء التي يقول عنها -مع غاندي- "إنها مؤذية في الغالب سواء كانت مادية أو إيديولوجية، من الدولة أو باسم مؤسسات أخرى... وهي كثيرا ما تنجح في مغالطتنا بتغليف أكثر مساعيها خبثا بمبررات أخلاقية"! * وكما يستشهد بغاندي في موضوع "القوة" يستشهد بفرانسيس جانسن في موضوع "الخيانة" فقد رد على اتهامه بذلك لمساعدة جبهة التحرير الوطني قائلا: "هناك خيانة أسبق" ألا وهي خيانة قيم فرنسا"! * * يتبع * (*) طالع الشروق اليومي، عدد الثلاثاء 12 - 1 - 2010