هيلاري مانتل، هذه المرأة التي تعاني من أمراض كثيرة ومنذ وقت مبكر أثرت على مظهرها الخارجي، أصبحت في السنوات الأخيرة ظاهرة نادرة في الحياة الثقافية البريطانية منذ فوزها بجائزة ”بوكر” البريطانية مرتين، الأولى عام 2009 عن روايتها التاريخية الضخمة ”قصر الذئاب”، التي تناولت فيها سيرة توماس كرومويل، أحد مستشاري الملك هنري الثامن، والثانية بعد ثلاث سنوات عن روايتها ”أخرجوا الجثث”، التي عادت فيها إلى السيرة ذاتها، مركزة على مصير إحدى زوجات هنري الثامن، آن بولين، التي أعدمها الملك هنري نفسه. وكلا الروايتين هما جزء من ثلاثية ستكتمل العام المقبل بصدور الجزء الثالث ”المرآة والضوء” الذي ينتهي بإعدام كرومويل عام 1540. تاريخ مفجع، لا تكف هيلاري مانتل عن النبش فيه، وتفكيك آليته في القمع، ممثلة بهنري الثامن، وثنائية الخضوع والسلطة، ممثلة بكرمويل. وبكلمة واحدة، يمكن القول إن هيلاري مانتل، هذه المرأة المنحدرة من أسرة آيرلندية متواضعة، ولكنها ولدت وتربت في إنجلترا، العدو رقم واحد للمؤسسة الحاكمة، قديمة كانت أم حديثة. وكانت قد أثارت السنة الماضية زوبعة عندما وصفت دوقة كمبريدج في محاضرة علنية بأنها ”تشبه دمية لعارضة أزياء في واجهات المتاجر”. أما آخر زوابع هيلاري مانتل، التي لا تزال تشغل الوسط الثقافي البريطاني، فقد جاءت بعد أن رفع أحد اللوردات قضية ضدها متهما إياها ب”نية قتل ثاتشر”، قصة قصيرة بعنوان ”اغتيال مارغريت ثاتشر: السادس من أغسطس (آب) 1983”، وهو تاريخ حقيقي، ففي هذا اليوم أدخلت ثاتشر المستشفى لعلاج عينيها. وكانت شقة هيلاري مانتل تطل على المستشفى، فرأتها من النافذة، وهي محاطة بمرافقيها وحراسها. تقول في لقاء مع جريدة ال”غارديان” البريطانية: ”فكرت في تلك اللحظة لو أنني لم أكن أنا، لو كنت شخصا آخر لقتلتها”. وهو ما قد يحصل لنا حين نرى فجأة طغاتنا أمامنا، الذين لا يمكن مقارنتهم بالطبع مع ثاتشر. ولكن لماذا تكره مانتل ثاتشر؟ بسبب القضية الآيرلندية؟ بسبب حربها على الفوكلاند؟ بسبب سياستها الاقتصادية التي زادت الفقراء فقرا؟. هي أسباب، ولكن هناك أخرى أعمق بالنسبة لمانتل كإنسانة وكاتبة. إنها ترى، كما في القصة المكتوبة بتشويق يقترب من الحبكة البوليسية، أن ثاتشر امرأة مزيفة. أولا، لأنها خانت جنسها كامرأة، وتقمصت طباع رجل فظ لتنخرط في المؤسسة الرجالية إلى حد بعيد، وتصل إلى السلطة. ومن هنا مسخت نفسها كإنسانة. ”إنها لم تعد تعرف حتى كيف تضحك، مع أن كل البشر يضحكون”، كما يقول القاتل المفترض في القصة. وحتى في حرب الفوكلاند لم تهتم ثاتشر قط بويلاتها وضحاياها، بل دعت الناس في مؤتمر صحافي بعد انتهائها، أن لا يطرحوا أسئلة حول هذا الموضوع، و”أن يبتهجوا فقط”. وككاتبة، تكره مانتل ثاتشر لأن ما شهدته بريطانيا، ولا تزال، على المستوى الثقافي هو نتيجة مباشرة للسياسة الثاتشرية، ومنها إلغاء مبدأ التعليم الجامعي المجاني، وحجب المعونة عن مكتبات كثيرة تابعة للبلديات، كانت تقدم خدماتها مجانا لملايين الناس، نتيجة قطع مساعدات الدولة عنها، وبات كثير من الأقسام الإنسانية في أرقى الجامعات البريطانية مهددا بالإغلاق، وتوقفت وزارة الثقافة عن مساعدة كثير من المنظمات الثقافية، ومنها مجلس الفنون البريطاني، أو خفضت هذه المساعدات إلى حد كبير لدرجة الخنق. وعلى المستوى الشخصي، لم تهتم المرأة إطلاقا بالثقافة، فهي لم تذهب مرة واحدة إلى المسرح، ما عدا بعض مسرحيات ”غلبرت وسوليفان” الفكاهية، وكان كاتبها المفضل السيئ الصيت جيفري أرتشر، الذي لم يأخذه أحد في الوسط الأدبي يوماً على محمل الجد. قضت مانتل 30 سنة وهي تحاول أن تكتب قصتها مع ثاتشر. ونجحت أخيرا. وها هي تقتلها.. أدبيا، وهو قتل أشد مضاضة.