لأكثر من عام والرئيس التركي رجب طيب إردوغان يكسر كل الأعراف الدبلوماسية والبروتوكولات السياسية، بعدائه الشديد لكل ما هو مصري، ومساندته الواضحة لجماعة الإخوان المسلمين، التي خرجت من الحكم من الباب الواسع على أيدي المصريين. وبلغ السيل الزبى بعد الهجوم الشرس الذي شنّه إردوغان على مصر ورئيسها في كلمته أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة، وأعقبه وزير الخارجية التركي الجديد مولود جاويش أوغلو بوصفه السياسة المصرية ب”العقد النفسية”، وهو وصف يطابق الحقيقة، لكنه للموقف الإردوغاني نفسه، الذي يبدو أنه فعلا عقدة نفسية أكثر منه موقفا سياسيا. السياسة التركية تزعم أن موقف إردوغان العدائي ضد مصر قائم على ”المبادئ الديمقراطية والقانون الدولي والقيم الإنسانية”، فهو يرى أن الرئيس المعزول محمد مرسي رئيس شرعي، بينما عبد الفتاح السياسي قائد للانقلاب وليس رئيسا لمصر، ولو افترضنا جدلا أن ”المبادئ الديمقراطية” وحدها، وليس الأجندات الخفية، المحرك الرئيس للسياسة الإردوغانية، فهل يريد أن يقنعنا بأن الديمقراطية التركية أعرق من كل الديمقراطيات الغربية التي لم تفعل، حتى وهي تختلف مع السياسة المصرية، 10 في المائة مما تقوم به أنقرة؟ بل ما هو رد إردوغان ورئيس أكبر دولة في العالم، باراك أوباما، يضحي به ويلتقي بالسيسي، على هامش اجتماعات الجمعية العامة، وهل لا يزال يظن أن سياسته ستثمر عودة حلفائه للحكم؟! من حق أنقرة رفض ما يحدث في مصر سياسيا، لكن ليس من حقها لا أخلاقيا ولا بروتوكولا مهاجمتها بهذه الطريقة، التي لا تتناسب مع دولة تصف نفسها ب”الديمقراطية”. الحقيقة المزعجة لإردوغان وحكومته وتحالفاته أن كل سياساته التصعيدية ضد مصر لم تغير من الواقع شيئا، ولم تفرض ضغوطا غربية كما كان يتخيل، كما أن مصر تمضي في مسيرتها نحو ترميم بيتها الداخلي، ومواصلة تنفيذ خريطة الطريق التي أفرزتها ثورة الشعب المصري في الثلاثين من يونيو 2013، فمتى استطاعت الحكومة المصرية تنفيذ هذه الخريطة بنجاح، كان الهجوم الإردوغاني حبرا على ورق، وصوتا يضيع في الهواء. عندما يتطاول السيد إردوغان على مصر فهو يريد توصيل رسائل سياسية لدول أخرى مساندة لمصر، مثل السعودية والإمارات، باعتباره لا يستطيع مهاجمتها مباشرة، غير أن التعامل الدبلوماسي المصري كان في أفضل حالاته، بعدما رد وزير الخارجية المصري سامح شكري على التطاول على بلاده بالقول إن ”مصر دولة كبيرة، ولا تنزل إلى مستوى الصغار”. وفي حين حسنا فعلت الإمارات، وهي تصدر بيانا يرفض تدخل تركيا في الشؤون الداخلية لدولة أخرى، فإن الكرة في ملعب جامعة الدول العربية، للمطالبة ببيان عربي يرفض أيضا التصرفات التركية غير اللائقة. القيادة التركية فقدت بوصلتها في التعامل مع مصر حكومة وشعبا، فالتغريد خارج السرب أضحى هواية مفضلة لسياسة أنقرة. فلا الأخلاقيات ولا المبادئ ولا الثوابت تسمح لدولة بالتدخل بهذا الشكل السافر في شؤون دولة أخرى. أنقرة يوما بعد الآخر ترسّخ فكرة تعاطيها وتقربها من تيارات متطرفة وإرهابية، فهي من جهة تستضيف بحرارة قيادات ”الإخوان” المبعدين من قطر، ومن جهة أخرى ترفض الدخول في التحالف الدولي ضد الإرهاب، فيما لا يزال موقفها غامضا عن الثمن الذي سددته نظير إفراج ”داعش” المفاجئ عن 49 دبلوماسيا تركيا. هل أفرجت ”داعش” عنهم بلا مقابل مثلا؟! لا توجد دولة في المنطقة تستطيع أن تتخلى عن علاقاتها بمصر، كون دورها محوريا، ولا يمكن التحرك إقليميا بمعزل عنها. يوما بعد الآخر تخسر تركيا من رصيدها ومن احترامها بسبب استفزازاتها التي لا تتوقف. وإذا كان إردوغان قد سجل رصيدا في العالم العربي لخطواته الاقتصادية الداخلية التي لا يمكن نكرانها، فإن هذا الرصيد نفد، والسبب عنترياته وسياساته الخارجية المعادية لدول المنطقة. مصر عائدة لدورها ومكانتها، ولن توقفها جعجعة مهما علا ضجيجها.