الشأن في المؤمن أن يعيش بين جاذبين: الخوف والأمل يقول ابن عطاء الله السكندري:”من عبَّر من بساط إحسانه أصمتته الإساءة، ومن عبَّر من بساط إحسان الله إليه لم يصمت إذا أساء”. المراد بكلمة ”البساط” المجال أو المنطلق أو المعتمد. والمعنى الإجمالي لهذه الحكمة أن من أراد أن يناجي الله سائلاً أو داعياً أو مثنياً، من منطلق ما يصل إليه من الله تعالى من أنواع المنن والمنح وما يعامله به من الصفح والتجاوز عن الإساءات والآثام، فلسوف تسكته كثرة إساءاته ومظاهر تقصيره في جنب الله.أما من أراد أن يناجي الله سائلاً أو داعياً أو مثنيا، من منطلق ما يصل إليه من الله تعالى من أنواع المنن والمنح وما يعامله به من الصفح والتجاوز عن الإساءات والآثام، فلسوف تقوده الجرأة إلى أن يتجه إليه بكل ما يريد، وأن يعبر له عن كل ما يجيش به صدره من الرغائب والآمال. فهاتان الحالتان يتردد بينهما كل مؤمن بالله تعالى مهما سما قدره أو تدانت رتبته عند الله.أي يتعرض لجاذبيهما الرسل والأنبياء والربانيون والأصفياء، والمتقون والحكماء، والفاسقون والأشقياء. وقد يكون تعبير ابن عطاء الله موهماً أن في الناس المؤمنين بالله من تنطبق عليهم دائماً الحالة الثانية.ولكن هذا الوهم غير مقصود لابن عطاء الله، كما نبه إليه معظم الشراح. إذ ليس في المؤمنين الصادقين بالله عز وجل، من تغيب عنه سبل النعم والألطاف والتجاوزات التي تفد إليه من الله دون حصر ولا حساب في سائر تقلباته وأحواله المختلفة مع الله ويحصر مشاعره في إساءاته وآثامه وانحرافاته التي تفد إلى الله منه. وليس في المؤمنين الصادقين أيضا من تغيب عنه مساوئه وآثامه التي يجترحها في جنب الله، ويحصر مشاعره في التنبه إلى كرم الله وصفحه وإحسانه. ولقد كنت أسمع والدي كثيرا ما يناجي الله بهذا الدعاء في الأسحار: ”يا رب إذا نظرت إلى نفسي وعقلي فإني من أهل النار والبوار، وإذا نظرت إلى كرمك وإحسانك ولطفك بالعباد، أرى الأمر سهلاً” ومن ذلك دعاء آخر كان يدعو به في أوقات خاصة بين الحين والآخر:”اللهم لك الحمد حمد عارف أخرسته معرفته عن الكلام، حمد من أحصى ذنوبه وقبائحه، فإذن قد ملأت الأرض والسماء، ثم نظر إلى عظمتك ونعمتك فإذن لا نهاية لهما، فاستحيا منك نهاية الحياء، فكاد أن يتقطع جسده، وأن يتصدع قلبه حياء وخوفاً منك، ثم نظر إلى رحمتك ورأفتك وعفوك وسترك، وإذن قد عمت السماوات والأرض وجميع الخلائق، فرجعت روحه إلى جسده”. لعلك تقول: فهذا الذي ذكرته وراد ومعقول في حق عامة الناس، إذ من شأنهم المرور بكل من حالتي التوفيق والتقصير، والإحسان والإساءة. ولكن كيف يتأتى هذا الذي ذكرته، في حق الرسل والأنبياء، مع ما هو معلوم من أن الرسل والأنبياء معصومون؟ والجواب: هو أنه ليس في الدنيا من يستطيع أن يؤدي حقوق الربوبية، ولو كان رسولاً أو نبياً، ولو كان من أولي العزم منهم، ذلك لأن النعم التي ترد من الله إلى العبد أجل وأكثر من الحقوق والواجبات التي تفد من العبد إلى الله أياً كان هذا العبد، إذ كل ما ينهض به العبد من الواجبات وما يؤديه من حقوق الربوبية، فإنما هو بتوفيق من الله وفضله، فهو الله عز وجل المنعم والمتفضل عليه، إذن فالعبد من شأنه ومن مستلزماته التقصير في جنب الله أيا كان وفي كل الأحوال، حتى وإن لم يقترف ذنباً، ولذلك أمر الله عباده جميعاً بالتوبة، إن لم يكن من الوقوع في الذنوب، فمن التقصير في النهوض بحقوق الله فقال: ”وتُوبُوا إِلىَ اللهِ جميعاً أيُّه المؤمنونَ لعلَّكُمْ تُفلِحونَ”(النور). هذا بالإضافة إلى أن العبد كلما ازداد معرفة بالله وقرباً منه، ازداد شعوراً بتقصيره تجاهه، وازداد قناعة بتورطه في أنواع من الإساءات والذنوب، فتسربت إليه مشاعر الخشية والحياء منه عز وجل، ولما كان الرسل والأنبياء هم أكثر الناس معرفة بالله وقرباً منه، فقد كانوا أشدهم شعوراً بل يقينا بذلك كله، ألا ترى أنهم كانوا أكثر الناس عبادة وخشية واستغفاراً، وأكثرهم تبتلاً وركوعاً وسجوداً في الأسحار؟.. المرحوم الدكتور محمد سعيد رمضان البوطي