إن الله لا ينسى فيذكَّر، ولا يهمل فينَّبه يقول ابن عطاء الله السكندري: ”إنما يذكَّر من يجوز عليه الإغفال، وإنما ينبَّه من يمكن منه الإهمال”. مما لا شك فيه أن الدعاء الذي يتوجه به العبد إلى ربه، إن كان على سبيل التذكير له عز وجل، فهو من السيئات المحضة، وهو موغل في سوء الأدب مع الله، كذلك إن كان على سبيل التنبيه له عز وجل. ذلك أن الله لا ينسى حتى يذكَّر، ولا يهمل حتى ينبّه. إذن، فعلى أيسبيل يتوجه العبد إلى ربه بالدعاء المبرور الذي يدخل في معنى العبادة؟ إنه سبيل من يعود إلى نفسه فيرى أنه أهل لمقت الله وابتلائه، لما يعلم من تقصيره ومظاهر انحرافه وتورطه في الأخطاء والآثام، فيقبل إلى الله إقبال المعترف بذلك؟يسترحمه ويسأله الصفح والمغفرة، ومن ثم يسأله أن يعطيه سؤله ولا يحجب عنه رغائبه، للسوء الذي تلبس به، متأملاً أن تشمله سعة عفوه وألا يطرده من ساحة فضله ورحمته.فإذا جاءته الاستجابة شكر الله وأثنى عليه بما هو أهله، وإن لم يجد استجابة أيقن أن الله إنما اختار له بذلك ما هو خير، وأن ميقات الاستجابة لم يحن بعد. فانظر إلى فرق ما بين هذين السبيلين أو المنطلقين للدعاء: أولهما موغل في سوء الأدب مع الله، ثانيهما موغل في التحقيق بمعنى العبودية لله. ولكن فيم يرى بعض العارفين أن التوجه إلى الله بالدعاء مظنة اتهام منهم لله عز وجل؟. الجواب أنهم يكونون والحالة هذه مندمجين في مقام التسليم لدى اندماجه الكامل بصفات الربوبية، كالرحمة، والحكمة، والعدل، والعفو، والإحسان. وأعني باندماجه بهذه الصفات يقينه الراسخ بأن الله متصف بها متحقق بمعانيها، وأن يكون على ذكر دائم لها. فمن البداهة بمكان أن الذي يندمج بمشاعره ويقينه مع ما يتصف به الله تعالى من صفات الرحمة التي وسعت كل شيء، والحكمة التي لا تحيط بها عقول الناس، والإحسان الذي يشمل الله به العاصي والطائع، والعفو الذي تصغر أمامه كبائر الآثام، يعلم أن آماله التي يرنو إليها في دعائه، لن تبلغ معشار ما قد بلغته رحمة الله به وإحسانه إليه، ويعلم أن بصيرته التي تكشف له عن جوانب الخير والشر في الوقائع والأحداث، لن تشكل إلا جزءاً تافها من الحكمة التي يتصف الله بها، والتي هي مدار خلقه للأشياء وتدبيره للمكونات.فما الذي يحفزه في هذه الحالة إلى الدعاء، وإنه ليثق بالخير الذي له عند الله بمقتضى رحمته وحكمته وإحسانه، أكثر مما يثق بالشيء الذي يراه أو يظنه خيراً، بمقتضى ضيق فهمه وقصر نظره؟ لا جرم أنه يقف، والحالة هذه، موقف التسليم ويقلع عن الدعاء خوفاً من أن يجرَّ على نفسه بذلك الشر، وهو يحسبه سعادة وخيراً. هذا بالإضافة إلى أنك قد علمت بأن الله لا ينسى فيذكَّر، ولا يهمل فينَّبه. لعلك تقول: فليدعُ الله أن يصفح عنه ويغفر له الذنب الذي يعلم أنه يستحق بموجبه العقاب، دون أن يتعارض ذلك مع واسع رحمته ودقيق حكمته. والجواب: أن المندمج بهذه الصفات الربانية التي حدثتك عنها، يجنح دائماً إلى التسليم كما قد ذكرت لك، حتى بالنظر للحالة التي تصفها، ذلك لأنه إذا أيقن أن معاقبة الله له بالذنب الذي ارتكبه لا تتنافى مع ما يعلمه من واسع رحمته ودقيق حكمته ورحمته، وفي ذلك من سوء الأدب مع الله ما هو ظاهر، فيجنح عندئذ إلى التسليم والخضوع لما قد قضاه الله في حقه. ولكن لا تنس أن هؤلاء الربانيين الذين يتحدث عنهم ابن عطاء الله، يتقلبون من هذا الأمر في أحوال، فربما هيمنت عليهم هذه الحال التي وصفتها لك، مدة من الزمن، فكان شأنهم خلاله الرضا والتسليم، لما قد بينت لك..ثم تنتابهم حالة أخرى، تدفعهم فيها مشاعر العبودية لله إلى التذلل على أعتابه، وإنما يكون التذلل له بإعلان الخوف من مقته والرجاء في عفوه، وإنما يكون ذلك بالدعاء. وصاحب هذه الحال موقن بأن الله إن استجاب دعاؤه فبرحمته الواسعة استجاب وبمقتضى حكمته صفح عنه، وإن لم يستجب دعاؤه، فلحكمة لم يستجب، وحيثما وجدت الحكمة كانت الرحمة منسجمة ومتفقة معها، إذ لا يعقل أن تقتضي الحكمة الإلهية شيئاً، وتكون رحمته سبحانه وتعالى بمعزل عنها أو مخالفة لها. وكل تصرف يصدر من عباد الله الصالحين، في هذا المجال الذي يتحدث عنه ابن عطاء الله، رهن بالحالة التي يمرون بها، وليس بين الحالين من تناقض، بل العلاقة بينهما نسبية. ومن وصل إلى رتبتهم أدرك معنى التكامل الذي يسري بين هذين الحالين، ولم يحرم من التمتع بحظ وافر من كل منهما. أما من لم يصل إلى رتبتهم، فإن عليه ان يفهم هذا الذي ذكرته لك من أحوالهم، وأن يكون أديباً في حقهم، ولا يجعل من سوء فهمه سبباً لانتقاصهم والخوض في شأنهم. المرحوم الدكتور محمد سعيد رمضان البوطي بتصرف.