سمعت مما سمعت في تأبينية الرئيس الراحل هواري بومدين كلاما كهذا “يا من أسست لدولة لا تزول بزوال الرجال(...)”! ها هي 36 سنة تمر على هذه الكلمة وعلى وفاة الرجل الذي ينقسم حول شخصه الجزائريون إلى صفين، صف يصفه بالعظيم وبالرجل الذي لم تعرف الجزائر رئيسا في حبه لبلاده وتفانيه في خدمتهما، وصف ينسب إليه كل الخيانات بما فيها الخيانات اللاحقة التي نعيشها هذه السنوات، لأنه حمى أشخاصا وحمّل آخرين مسؤوليات أكبر منهم ولأنه فتح الباب أمام ضباط الجيش الفرنسي.. ولأنه.. ولأنه..!! ومهما كان الحاقدون على بومدين، لا أحد منهم يجرؤ على أن ينعته بالفاسد أو اللص أو أنه باع البلاد إلى أعدائها. ولا أحد يتهمه بأنه شجع على الفساد أو تستر عليه. ففي عهده فقط طبق الإعدام على من نهب المال العام. وبعده أطلقت السلطة أيدي اللصوص يفعلون بثروات البلاد ما يفعلون منذ الشاذلي وإلى اليوم، لكن حجم الفساد لم يبلغ الدرجة التي وصلها اليوم، وأكثر من ذلك لم يعد اللصوص يتسترون، بل صارت لهم دولة تحميهم وتحارب كل من يحاول أن يتصدى لهم. لم تزل الدولة التي أسس لها بومدين، لكنها اليوم صارت مثل مدينة بعد زلزال عنيف، تهاوى ما تهاوى من مؤسسات، والتي ما زالت واقفة مغشوشة وقد تسقط مع أول هزة ارتدادية لاحقة. لم تزل الدولة ولكن زال الرجال على كل مستويات السلطة وطأطأوا كلهم الرؤوس أمام عصابات الفساد التي فرضت منطقها. طبعا فساد السلطة اليوم لا يتحمله بومدين لكن “الركبة كانت مايلة” منذ البداية. لكن شتان بين دكتاتورية بومدين التي أنشأت المدارس والجامعات والمصانع والسدود وحاربت المرض والجهل والفقر وبين ديمقراطية طوابير المبخرين والمصفقين واللصوص، ديمقراطية حاويات الاستيراد ومافيا العقار التي ابتكرت لها طريقة جديدة لقتل خصومها. شتان بين رئيس لم يترك في حسابه ما يكفي مصروفا لزوجته فترة شهر وبين ديمقراطية لصوص حولوا الملايير من المال العام إلى الخارج على مرأى ومسمع كل المسؤولين. فهل أخفى آل بجاوي مثلا عن أصدقائهم في السلطة أنهم يمتلكون الملايير في كندا وأمريكا وفرنسا ودبي؟! هل أخفت نجاة عرفات عن أصدقائها في الجزائر أن لها نصيب من النفط تسوقه “أوف شور” وأن لها شركاء وهميين بمكاتب أعمال في باريس وعواصم أخرى يسيرها بنات وأصهار وأبناء نافذين في الحكم؟! لم نكن نتوقع ونحن نبكي بومدين تأثرا بما جاء في خطاب تأبينه ونصدق كل كلمة وكل حرف قيل في الرجل، أننا وبعد 36 سنة على وفاته سنلعن في سرنا وعلانيتنا كل كلام وكل وعود وكل ما يأتي في خطابات المسؤولين، وأن سيأتي يوم ونرى في صورة كل وزير وكل مسؤول صورة لص!؟ لم نكن نتوقع أن الجزائر التي أنجبت بومدين وأنجبت عبان وبن مهيدي وعميروش ومريم بوعتورة، ستتحول بعد سنوات من ذلك إلى محمية للصوص والإرهابيين وليست دولة لا تزول بزوال الرجال!؟ بكى الجزائريون بومدين وهم يسكنون الأكواخ ولم تعرف بطونهم الموز ولم تر أعينهم الكيوي ولم تتذوق ألسنتهم الشوكولاطة السويسرية والأجبان الفرنسية ولا ركبوا “سامبول” ولا وعدوا بمشاريع “عدل” ولا “أنساج”، لأنهم صدقوا لما رأوا وزراء بومدين يبكون وصدقوا الوعود التي قطعت أمام جثمانه. بكوا في شموخ وكبرياء مجاهدا لم تطأ قدمه أرض العدو وها هم اليوم يبكون حسرة لأن البلاد رهنت ولأن شعبها صار بعضه لبعض عدوا.