تتحدث الكاتبة البريطانية ميراندا فرانس في ”أوقات سيئة في بوينس آيرس” عن إقامتها هناك أوائل التسعينات. رغم قتوم الذكريات والمرحلة، رأى النقاد في مؤلفها شملاً ساخرًا ومرحًا. قرأت الكتاب قبل سنوات عدة، لأنني كنت أعمل على واحد من تلك المشاريع الروائية التي لا ألبث أن أتخلى عنها، إما لسبب شخصي عميق، أو عندما أكتشف أن الرقيب العاطفي يدمر جدوى العمل. كان المشروع يقتضي أن أنقل أشخاص الرواية من بيروت إلى بوينس آيرس، تمويهًا للوقائع من دون حذفها. في أي حال، لم يتم، هو وبضع محاولات مماثلة. لكنني رأيت نفسي أغرق في ملاحم الحياة في الأرجنتين وجمالياتها وسرها الذي لم يفكه أحد حتى الآن: إحدى أخصب بلدان الأرض وإحدى أكثرها غرقًا في الفوضى والإفلاسات والأزمات والانقلابات وما يليها. من دون سبب أو مناسبة، عدت منذ أيام إلى قراءة كتاب ميراندا فرانس. واكتشفت أنه الكتاب الواقعي، أو الانتقادي الوحيد في كل ما قرأت. وقد اكتشفت، مثلاً، أنني كنت أحلم دومًا بالسفر إلى بوينس آيرس في الشتاء، لأنه فصل الصيف هناك. فإذا هو فعلاً صيف، ولكن مع رطوبة 90 في المائة وحر لا يطاق وتلوث يزيد على 300 في المائة. وعندما تهب أخيرًا رياح القطب القريب، تدمِّر أمطارها السقوف، وتغرق الشوارع، وتعطل الحركة العامة كما يحدث لبيروت في أول ”شتوة كبرى”. ثم أنت لم تغادر بيروت عندما يبدأ الحديث عن البيروقراطية والمعاملات الرسمية والموظف الذي يقول لك تعال الأسبوع المقبل، وموظفة الاستقبال في المستشفيات التي تقلم أظافرها وتحكي على التليفون وتتأمل صور الموضة. وكل ما سمعته عن البيروقراطية في القاهرة لا يقاس. وكل ما قرأته في الروايات الروسية لا شيء. وكما يقال لك في وزارات بيروت إن الرجل حامل الختم غائب، يقال لك في بوينس آيرس إن حامل المفتاح لن يعود قبل الاثنين. عد يوم الاثنين. وكما تتحسر على المباني القديمة في القاهرة، يضنيك مشهد الجمال المعماري في عاصمة الأرجنتين. وكما تبحث عن سمعة ”غروبي” الماضية تتساءل ماذا حدث ”للكافيه إيديال”. وكما تصاعد مبيع المسكّنات في بيروت بنسبة لا تُصدّق، هكذا حدث في ”باريس اللاتينية”. وكما يعامل الضوء الأحمر في بيروت، والضوء الأصفر في القاهرة، هكذا.. هكذا أيضًا. وكذلك. وكما ينقسم اللبنانيون حول الموتى والأحياء والذين سيرثون الانعدام في سبيل القادمين، ذلكم هو الأمر في باريس الأخرى، أو بيروت الأخرى. تمنيت لو لم أقرأ كتاب ميراندا فرانس. خيبة كان في إمكاني الاستغناء عنها. لكنه في أدب الرحلات، كتاب جميل. سمير عطا الله – عن الشرق الأوسط