ليس منّا من دعا إلى عصبية وليس منا من قاتل على عصبية وليس منا من مات على عصبية« حديث نبوي رواه أبو داود عن جبير بن مطعم. من بقايا السلوك الجاهلي المذموم والمحذور التعصّب لطائفة، أو عقيدة أو مبدأ من المبادئ، أو حزب أو مذهب من المذاهب، أو دين من الأديان. والإسلام براء من التعصّب لأنه اتجاه نفسي سالب مغلق ومتشدّد ومشحن بالانفعال وبالغلوّ، وقد نهى الله تعالى عن الغلو »يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم غير الحق ولا تتبعوا أهواء قوم قد ضلوا من قبل وأضلوا كثيرا وضلوا عن سواء السبيل« (المائدة: 77). المتعصّب إنسان لا يدري غالبا وجود التعصّب عنده، ويظن الآخرين لا يرون ولا يسمعون وهو دائما يتحدث عن مبرّرات لاتجاهه، على اعتبار أن الآخرين هم دوما مخطئون، وأنهم لا يحتملون ولا يملكون من المزايا إلا أقلّها. فالمتعصّب فرد منغلق على نفسه ولا يقبل النقاش في ميوله. التعصّب والهوى وجهان لحقيقة واحدة، وأشدّ أنواع التعصب هو التعصّب العنصري، وهو أمر مكتسب ويُتعلم وقد يتضخّم التعصب من حادثة بسيطة. فهو مرض مزمن، والخطير فيه الشعور العدواني الداعي إلى الكيد والفرقة وعدم التسامح. ويصل إلى درجة إشعال نار الحرب، وتنتج عنه سيئات تتحمل الأجيال القادمة أشكالها وأنواعها وتجد نفسها مدفوعة إلى متابعة الزوابع التي ولدوا في داخلها، ومثاله التعصب الصليبي الذي أدّى إلى الحروب الصليبية، ومنها حروب التتار والمغول التي ألمّت بالأمة الإسلام فأدّت إلى مصائب لا تحصى ونوائب بلا حدود تناولت الحضارة والمعتقدات والحياة الاجتماعية، وعلاقات الأمة بالأمم الأخرى، فتقطعت أوصال المجتمع الإسلامي وظهرت اتجاهات عديدة منها حكم المماليك والفاطميين والقرامطة، والإسماعيليين وعبدة الشيطان.. وتعدّدت أشكال العدوان المقاتلة واستيقظت الدعوات من باطنية وصوفية ومتفلسفة، وناقدة وناقضة ومنكرة وملحدة. واليوم مازالت الحروب الصليبية تعيش بأساليب متعدّدة تظهر تارة وتختفي أخرى أو تغيب وتنسحب إلى الأعماق، وقد تسمع ببعض الحوادث التي تعبّر عن نفسها مثل وعد بلفور، الذي وهب وطنا لا يملكه إلى أمة لا تستحقه كما لاحظ الأستاذ عدنان السبيعي وكما استغرب من انتقال التعصب الصليبي إلى أقوام لم تدخل في علاقة مع الصليبيين لا سلبا ولا إيجابا كأندونيسيا والفيليبين ونيجيريا وأفغانستان وغرب إفريقيا، هذه البلدان التي مازالت تتلقى الأذى والعدوان الصليبي. فإني أضيف إلى ذلك أن المتعصّب لا تهمه الأداة التي يستخدمها حيث تكون أحيانا الدعوة الدينية المتحجّرة الجامدة، وأحيانا التمذهب الفلسفي المتوحش وأخرى السعي في نشر الإشاعات الكاذبة، وتأليب الرأي العام لإثارة الفوضى وبث الأكاذيب وزخرفة التضاليل، فتصبح القاعدة كما قيل: أن يؤخذ الحق بالرجال، وليس الرجال بالحق. ومن الذنوب العظام والآثام الفاحشة، أن يوجد بين المسلمين التعصب لمذهب، دون السماع لوجهات النظر عند الآخرين رغم اتساع آفاق الفكر الإسلامي ودعوته إلى التسامح حتى مع غير المسلمين، وعلى الرغم من التسليم بقاعدة أصولية مفادها »أن الاختلاف في الإسلام رحمة«. إن الدّارس بعمق فقه أصحاب المذاهب الفقهية يلاحظ أنه لا يلتمس كل صاحب مذهب منهم التضييق بل مقصدهم وتوجههم دائما توفير التيسير وتجنب التعسير، فالذين يتعصبون لهذا أو لذاك هم من الذين قال عنهم القرآن »كل حزب بما لديهم فرحون« (المؤمنون: 53). إن المقيّد بالتعصب شبيه بالواقع في الهوى، فكلاهما يملك ثوابت يصعب اقتلاعها وكلاهما لا يبالي بالآخر، وقد جابه خاتم المرسلين محمد صلى الله عليه وسلم هذا الوضع الخطير ليخرج الناس من الظلمات إلى النور وليكون المسلمون حقا كما أراد لهم الله أمة وسطا »وكذلك جعناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا« (البقرة: 143). وليكون المسلمون »خير أمة أخرجت للناس« (آل عمران: 110). لقد كشف العلم حقيقة الدين الإسلامي ببراهين قاطعة، نعم لقد كشف أن الباطنيين يظهرون ما لا يبطنون، ويقولون خلافا لما يفعلون وتسمع إليهم فلا تدري ما يريدون، وما لا يريدون »يقولون بأفواههم ما ليس في قلوبهم والله أعلم بما يكتمون« (آل عمران: 167)، »يقولون بألسنتهم ما ليس في قلوبهم« (الفتح: 11). وللصوفية درجات وللمتفلسفين اتجاهات ما أنزل الله بها من سلطان واليوم يواجه الفكر الإسلامي الناهض من يزعمون بالعالمية الشاملة في حين أن الشمولية اختص بها الاسلام لأنه دين شمولي موجه للناس كافة »وما أرسلناك إلا كافة للناس بشيرا ونذيرا ولكن أكثر الناس لا يعلمون« (سبأ: 28). فليكن في علم المسيحيين واليهود أن الإسلام دين محبة وإخاء وشورى وعفو بدليل خطاب الله تعالى لخاتم المرسلين »فبما رحمة من الله لنت لهم ولو كنت فظا غليظ القلب لانفضوا من حولك فاعف عنهم واستغفر لهم وشاورهم في الأمر« (آل عمران: 159). والديمقراطية مشخصة فيه من خلال قول الله تعالى »فأمرهم شورى بينهم« (الشورى: 38). ومن مظاهر التسامح الإسلامي قوله تعالى »ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم« (فصلت: 34) وهو دين لا يفرض بالقوة بل بالقناعة والاقتناع »ولو شاء ربك لآمن من في الأٍرض كلهم جميعا أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين« (يونس: 99)، فالتعنت والعناد والتشدّد والعصبية الإسلام براء منها فلماذا تقولون على الإسلام ما هو براء منه؟ الإسلام دين يُسر، قيمه إنسانية رحيمة رفيقة.