في دواخلنا تنبت كل الأشياء الجميلة التي لها صلة وثيقة بالأرض، وتلتصق بنا لدرجة أننا قد نفقد الأمل ونحس بالعدمية المفرطة بدونها، فمسقط الرأس الأول بمثابة الشمس التي ما أن غابت عنا، أشعرتنا بارتعاشات، الوحدة والغربة والبرودة، وإن حدث العكس وكنا في حضنها فتلك قصة أخرى مع حرارة ودفء التراب ووهج العائلة، فالإنسان مجبول بحب أرضه حتى وإن كانت جحيما !، حتى وإن غادرها إلا انه يفكر دائما في العودة، مربوط بحبلها السري الذي لا ينقطع، حتى وأن طاف وجال كل العالم بأسره، إلا أنه يحن في الأخير لفتات التراب الأول الذي نبت فيه !. يمتلك كل واحد منا نشيدا في قلبه، لا يحفظ منه شيء، لكن يشعر به دائما، لأنه يجري في عروقه مثل مجرى الدم ويتجلى أيضا في كل نفس يتنفسه اتجاه التراب الأول الذي سقط فيه، لكن ماذا لو كان هذا التراب تحت طائل الاحتلال ! كل الحروب التي حدثت عبر التاريخ وتحدث اليوم، سببها الجغرافيا، بما تحتويه في باطنها أو فوقها من إمكانيات، صراع يتجلى بين المنتسبين الحقيقيين والوافدين الجدد على تلك الرقع الكبيرة أو الصغيرة لا يهم الحجم هنا، بل يهم الانتماء الحقيقي، وتهم أيضا تلك اللحظة الفارقة التي تعكس أحقية الوجود من عدمه، والتي تتجلى غلبا في المقاومة والثورة ومن يتحمل أكثر الضربات والصمود من اجل أرضه !
في التاريخ القريب والبعيد، مئات النماذج لشعوب أمانت بشكل مطلق بوجودها وأحقيتها في امتلاك أرضها، فانتصرت على نفسها وعلى الغزاة ولو بعد حين، منها الجزائر طبعا ، بعد 132 سنة من الاستعمار والجور الفرنسي، تفوق الشعب في الأخير على الظلم والجور والمأساة الاستعمارية، لأنه كان يؤمن بأحقيته الوحيدة في هذا التراب، فلم يكن في حاجة إلى كل تلك الدبابات والأسلحة التي يمتلكها العدو لكي يجابهه بها، كان في حاجة فقط إلى الإيمان والوعي على انه صاحب حق ومبدأ، لتتفتق العبقرية من أنامله، مجابهة المتغطرس ببنادق بسيطة وسيوف وخناجر وحتى بالحجارة، لكن كان وقعها كوقع الدبابات في عرين العدو الغاصب.. فقط مفهوم المقاومة يصنع الفارق في مثل هذه المعارك ويحدد من صاحب الأرض ومن غيره، رغم أن الفرنسيون زرعوا افتراءا في العالم على الجزائر فرنسية لأزيد من قرن ونيف، وروجوا له لعقود من الزمن بآلتهم الدعائية الرهيبة، حتى كاد العالم ينسى أصحاب الرقعة الحقيقيين، كانت الثورة السبيل الوحيد لتعيد كل الى مكانه الطبيعي .
في فلسطين لايزال صراع الأرض قائما منذ أزيد من 6 عقود، بين عدو غاصب يحاول بكل جهده ان يطمس هوية شعب نبت هناك منذ ملايين السنين، وامتزجت دمائه بخضرة الليمون، وتكونت ملامحه من تراب تلك الأرض، لذلك يسعى المحتل بكل قوته مع دعم غربي صارخ وخيانة عربية وإسلامية واضحة، أن يزيف التاريخ ويتجاوز الحقائق من أجل تثبيت وجوده الغاشم، لكن ما لا يعرفه هذا العدو أن الإنسان مثل بعض النباتات لا تبنت إلا في تربتها الأصلية، وان حدث وتم اقتلاعها فان جذورها باقية وممتدة في عمق الأرض !
لم تكتنفني الغرابة إطلاقا من قرارات ولي عهد السعوية في بلاده، لأنني كنت متأكدا أن هذا الأمير الصغير مكلف بمهمة ما، بالقدر الذي استغربت فيه أن تكون هذه المهمة هي بيع فلسطين في المزاد العلني، وهذا الذي يحدث فعليا يوما بعد يوم، فقوله إن الإسرائيليين لهم الحق في أن يكون لهم وطن في فلسطين ، ليس سوى دليل على ما كتبته مؤخرا حول وجود صفقة لبيع القدس، تمت في الرياض لما زار ترامب السعودية خلال ماي الماضي، وما بقي من ولي العهد الصغير سوى التنفيذ !. لكن الذي لا يعرفه الفتى الذكي أنه لا يملك الحق في الحديث عن فلسطين لأنها ليست ملكه الخاص وليست ملكا لأحد بل هي قضية الشعب الفلسطيني والضمائر الحية للمسلمين والعرب وكل أحرار العالم الذين يدافعون عنها، أم الخونة فلا مكان لهم للحديث عن القضية، وما الرسالة القادمة مما يسمى بانتفاضة دواليب السيارات في غزة، ورام الله وغيرها من المدن الفلسطينيةالمحتلة، التي أحرقت فيها صور ملك السعودية ونجله، سوى ذلك الدليل الكافي على أن قرارات المملكة تخصها هي فقط، وليس الشعب الفلسطيني المقاوم بكل ما أوتى من قوة ضد المحتل الصهيوني الذي تعقد معه جلسات في الخفاء والعلن مع حكام باعوا القضية ويحاولون قطع الحبل السري بين الشعب الفلسطيني وأرضه !. الكيان الصهيوني ليس أقوى من فرنسا ولا أمريكا اللتين انهزمتا في الجزائر والفتنام، فقط الإيمان بالقضية هو الذي يزعز نوم المستعمر ويجعله في أرق وخوف دائمين، لذلك يحاول بعض الحكام العرب محو تلك القضية من نفوس الفلسطينين أولا، والشعوب العربية والمسلمة ثانيا وحتى أحرار العالم المتعاطفين معها ثالثا، من خلال سياسة الانبطاح والتطبيع في موجته الثانية، التي بدأت سياسيا، وتطورت اقتصاديا، وانتهت إعلاميا،عسكريا،هؤلاء الحكام الخونة يرغبون في إهامنا على أن المشكل ليست في الكيان الصهيوني بل كل المشكلة في الشعب الفلسطيني المنقسم على نفسه !!، ليس هذا فقط بل دعت كل من السعودية ومصر المنتفضين في غزة المحاضرة إلى وقف مسيرة العودة لأنها تزعج الكيان الصهيوني !! لحسن الحظ يحتفظ التاريخ بذاكرة طويلة وعريضة من الأحداث والوقائع التي تلخص دائما بأن الجبابرة سيهزمون وأن الخونة سيذلون شر مذلة، طالما كان نشيد الارض في نفوس أصحابها الحقيقيين أقوى من فكرة الاستعمار والخيانة!