تحل اليوم الذكرى 39 لرحيل عندليب الغناء العربي، عبد الحليم حافظ و تطرح معها عدة تساؤلات حول مدى حضور "زمن الفن الجميل" لدى الجيل الجديد من الشباب، و مدى استيعاب ذائقة هذا الفن و معايشته لإيقاعاته الرومانسية، كما قد نتساءل عن علاقة شباب اليوم بفن عبد الحليم حافظ، كأحد رموز ذلك الفن الجميل و مدى ملامسة أغانيه لأحاسيسه، في عصر العولمة و المعلوماتية و وسائل الاتصال و التواصل الاجتماعي و ضجيج الأغاني العصرية. لمحاولة إيجاد أجوبة على بعض هذه التساؤلات اتصلت النصر بمجموعة من الشعراء الشباب، فرصدت هذه الآراء. نوّارة لحرش هناك عودة شبابية خجولة إلى الزمن الجميل "قبل عقود من الزمن كان الفن الصافي الجميل العميق هو الذي يشكل الذائقة الجماهيرية، و يؤثر في الأنفس الشفافة و القلوب الدافئة، ورغم قلة قنوات التواصل و الإعلام و الإشهار، إلا أن هناك أسماء فنية خالدة رسمت مشاهد فنية رائعة. و صار للفن قامات شامخة بحق، و منها عبد الحليم و أم كلثوم و فيروز، و لا يكاد يختلف اثنان حول تلك الأصوات و محمولاتها العاطفية و الوجدانية الجميلة، والتي جمعت بين الرومانسية و الواقع الساحر، والخيالات والأحلام.كانت أغاني الزمن الجميل، تجسد معاني الحب الخالد و تربي أجيال متعاقبة على تلك الفصول الفنية البهيّة،لكن جيل اليوم المتنصل في كثير من الأحيان عن قيمه و أصالته، وفي خضم موجات العولمة الهدامة، و تطور وسائل الإعلام وكثرتها انفتح على عوالم ثقافية جديدة غثها أكثر من سمينها، فتبنى الموسيقى الغيرية الدخيلة، بدل الأصيلة، وصار مقلدا في فنونه، و استعار ذائقته من غيره، فتشظت منابع تلقيه الفنية وتعكر صفو ذائقته. قلما نجد في هذا الجيل الجديد من يستمع لروائع عبد الحليم و أم كلثوم، فإذا حاول البعض من المحللين أن يبرروا ذلك بأن إيقاع العصر تغير و أن كل شي مال للقِصر و السرعة، فأنا أرى أن ذائقة هؤلاء لا ترقى إلى مستوى الفن الأصيل، و فاقد الذائقة الفنية لا يعطينا فنًا، ولا يتذوقه أصلا. هناك أسباب عديدة لهذا التنصل والجحود الفني أبرزها وسائل الإعلام و تهديمها و تغييبها للفن الجميل، كما أن هناك تركيبات نفسية و اجتماعية تربوية ساهمت في هذا الانزلاق". الفن الحقيقي مهما تغيرت الأجيال سيبقى خالدا "لا زمن يحدّ الأغنية و جماليتها، المشكلة تكمن في الأذن لدى شباب اليوم، إذ أصبحت أذنا منحرفة ذوقيا، نتيجة الّصخب و عوامل العصر التي تجرّ حواس غالبية الشباب، لتعاطي الفنّ السريع بإيقاعاته العالية والخفيفة.أعتقد أنّ عودة الذوق و الوعي الموسيقي و تقنينه من جديد، مسألة صعبة نوعا ما، عبد الحليم حافظ مجرّد نموذج، فأن يعود الزمن الجميل بحسه العالي، فهذا ربما من باب الموضة، صرعة جديدة و تزول، الفنّ رسالة، الفنّ مدارس و هامات. الزمن الجميل مهما تغيرت الأجيال سيبقى خالدا، نخبة قليلة من الشباب من يحافظون عليه ويسيرون على دربه. الفنّ الآن مزيج بين التكنولوجيا و الموسيقى، لقد اختفت عوامل كثيرة من الحسرة و المسافات و الحرمان، الإحساس في حد ذاته تغير، نجد الآن الأغاني القديمة تُعاد صياغتها، دبغها، تلميعها غسلها بالضجيج. الضجيج وافد جديد لعلاقة الإنسان الحديث، سواء بالصورة أو الفكرة أو بالمتلقي، لقد اختفى كل ما يتعلق بالسّهر والتّعب والشوق، جاهزية الأشياء هي الغالبة. النخبة الذواقة هي وحدها من ستحافظ على هذا الإرث العظيم و أدبياته و قد يصبح لتلك الأغاني القديمة متحفا يختص بها مع اختفاء جيل "السّميعة". الفن لا زمن له "كل جميل هو عابر للزمن و للجغرافيا أيضا، في زمن التقنيات الحديثة المتعددة، يبدو التشبث بالقديم حتى وإن كان جميلا ضربا من الرجعية المطنبة، إلا أننا لازلنا نجتمع أمام الشاشات التلفزية المُطورة، للتمتع برومانسيات الزمن الجميل وعيش القليل من إنسانيتنا بتمضية وقت مع الحركة البطيئة و الرمادي الهادئ.أعتقد أن الأمر يتعلق بالذائقة، و حيز التذوق يتعلق أيضا بعدوى الجمال و طريقة تذوقه و كيفية رؤيته و من أي الزوايا، فأنا مثلا لازلت أحمل معي عبد الحليم و لازلت أستمع إليه في مشاوير السيارة و أتحسر كثيرا لعدد الأفلام التي تركها و أبحث دائما عن تكرار ما عشته من لحظات جميلة باسترجاع مشاهدته، و سماعه، فقد ارتبطت أولى حكايا الحب عندنا بكل جميل صدر عن عبد الحليم، لقد شبكت قدم قلبي "بميل و حذف منديلو". كما أذكر أن أول قصة رومانسية عشتها كانت مع أم كلثوم و وردة، إلا أن الملفت أن محيطك المقرب يلتقط عدوى التذوق فتتوسع، فالأصدقاء المقربون صاروا من السهارى ومن عشاق أم كلثوم، الآن بفضل ارتباطنا، و أفراد الأسرة تستهويهم ذات وجهات التذوق، معنى هذا أن حتى طرق تذوقنا هي عدوى من نحب. عبد الحليم كان و لا يزال أيقونة العاطفة لدى الشباب العربي "الفن الجميل بوجدانيته العالية، كان في يوم ما حركة انعتاق فنية حديثة العهد، مشحونة بروح تواقة إلى التجديد و التمرد على الأصول المؤسسة، هذا ما حدث، حين تزاوجت ثورة الشعر مع ثورة الموسيقى في عهد أم كلثوم التي تحول فيها الغناء من نمط "الطقطوقة"، إلى الأسلوب التلحيني الموغل في توزيع الموسيقى على كل الأدوات الموسيقية توزيعا عادلا، بدل أبوية الدف و العود و الكمنجات المكررة لنفس الطبق، حتى آخر الأغنية. لكلٍ لذته و جمهوره، كما أن الموسيقى في زمن عبد الحليم مثلا، انفتحت أكثر على العالم، فسرقت الساكسوفون من فرقة أرمسترنغ، و القيثارة الكهربائية من البيتلز و آبا و براون و غيرهم، لكن تلك الاقتباسات كانت تركيبة و لم تكن تلفيقية، وهكذا تطور الوجدان. قصائد نزار مثلا، ولدت حين سماعها عاطفة تخيلية يدعمها البصر، فإذ يتلقى المتلقي حالة الود و هو يسمع "قارئة الفنجان"، يجد نفسه جائلا ببصره في مدينة العاطفة، بحكم التوليدات البصرية التي يعتمد عليها نزار في شعره، حتى أن عبد الوهاب قال ذات يوم "نزار شاعر يكتب بعينيه".بالنسبة لشباب اليوم، فهم أبناء عصرهم، هذا العصر الذي لم تصبح فيه الرومانسية عملا ثوريا أنجبته رواية "البؤساء" لفيكتور هيغو، أو موسيقى شوبان "شاعر البيانو"، أو المنفلوطيات و الجبرانيات عالية الحزن والعبقرية الوجدانية، بل هناك من يعتبر كل ذلك العصر الصوفي المجيد، كان مخدرا طويل الأمد. هذا العصر اتهم الزمن الحليمي و الكلثومي و الأطرشي بسجن الروح في زنزانة من الروعة، بل كأن أبناؤه يقولون "تسقط غرفة تجميل الروح".طبعا بين هذا وذاك، ظهرت أغاني السندويتش، ضعيفة المعنى و الموسيقى، و التي لم تكن سوى تجليًا للخيبة، خيبة مجتمعاتنا وهي تسير بالحب على مجامر الظلم و البطش، التجاهل و الإقصاء. عبد الحليم كان راقيا، كان و لا يزال أيقونة العاطفة لدى الشباب العربي. شخصيًا أعتبر أن سبب موته هو الحب، الحب الذي لم يجد العربي ترشيده، و الانتفاع منه، و توزيعه بعدل بين الواقع و الحلم.