بعد ثلاث سنوات من رحيل الفنانة الكبيرة وردة الجزائرية، مازالت الكتب والأفلام التي صدرت عن حياتها لم تجب عن الكثير من الاستفهامات الخاصة بهذه الفنانة التي ولدت في باريس، من أم لبنانية، وأب جزائري، وعرفت الشهرة في مصر، وإذا كان فتح كتاب زواجها الأول من العسكري الجزائري الراحل قصري أب ابنيها رياض ووداد من الطابوهات، وهو على العموم زواج تقليدي حدث مباشرة بعد الاستقلال، فإن قصة زواجها من الموسيقار الراحل بليغ حمدي تصلح لأن تكون فيلما مثيرا، خاصة أن فيها لمسات سياسية وأخرى عاطفية وفيها أيضا الكثير من الأسرار. بدأت وردة الغناء قبل استقلال الجزائر وسحر صوتها موسيقار الأجيال وبدأت من القمة عندما تعاملت مع أكبر الملحنين في تاريخ الموسيقى العربية رياض السنباطي الذي قدّم لها أربعة ألحان، أي أكثر من اللحنين الوحيدين اللذين قدمهما لعبد الحليم حافظ، ولكن زواجها التقليدي من جزائري جعلها تنقطع عن الغناء لمدة قاربت 10 سنوات حتى نساها الناس، إلى أن حانت الذكرى العاشرة للاستقلال وبدأ التفكير في إقامة حفلات عسكرية وفنية كبرى ومتميزة، فلاح خيالها في الأذهان، وعاد اسمها على بعض الألسنة بعد أن بلغت سن الثالثة والثلاثين. بومدين أرادها احتفالات جزائرية قصة عودة وردة الجزائرية إلى الجزائر رواها للشروق اليومي، الدكتور محي الدين عميمور، الذي كان قريبا من الرئيس الراحل هواري بومدين، كان قد أحيى عبد الحليم حافظ وشادية حفلة الذكرى الأولى لاستقلال الجزائر في مختلف المدن الجزائرية وبدأ التفكير في محيي الذكرى العاشرة، فتم طرح اسم أم كلثوم لتزور لأول مرة الجزائر، ولكن الدكتور محي الدين عميمور ذكّر مقترحي اسم كوكب الشرق، بأنها لم تغن أبدا للثورة الجزائرية أيام محنتها، كما سقط اسم فريد الأطرش الذي غنى في ملحمة بساط الريح العديد من بلاد العالم العربي، ولم يذكر الجزائر، وتأسف محي الدين عميمور، لكون وردة الجزائرية اعتزلت.. وإلا لكانت هي ملكة الاحتفالية. وبدأت المبادرة الكبرى لأجل إقناع زوج وردة، بالسماح لعقيلته بأن تؤدي أغنية واحدة للجزائر، من كلمات الشاعر الجزائري الراحل صالح خرفي وألحان أحد عمالقة الموسيقى العربية، وتعود إلى بيتها، وقبل الزوج العسكري بعد أن علم بأن الاقتراح شارك فيه الرئيس هواري بومدين الذي لا يمكن لأي أحد رفض رغباته . وفرحت وردة بالمبادرة واقترح عليها اسمين لعملاقين في الموسيقى لتختار أحدهما ما بين رياض السنباطي وبليغ حمدي، خاصة أن الأخير لحّن لعبد الحليم حافظ، أغنية عن الجزائر في أواخر الخمسينات، وطلبت وردة من بليغ حمدي الذي لم يمكن قد جاوز حينها سن الواحدة والأربعين سنة، وطار الموسيقار الكبير إلى الجزائر، وكان في استقباله محي الدين عميمور والحاج محمد روراوة الذي كان حينها يشتغل في الرئاسة، ولكن بليغ حمدي المعروف بمزاجه الصعب، وتقلبه بين الحين والآخر، بعد أن تسلم مجموعة من قصائد الراحل صالح خرفي ومنها نداء الضمير ومن بعيد أدعوك يا أملي، حاول العودة إلى القاهرة . ولكن السيدين عميمور وروراوة رفضا وأصرا على أن يركز على لحنه قرب صاحبة الصوت وردة، فتكفل الحاج روراوة، بتحضير ظروف العمل لبليغ حمدي في مسكن بعيد في وهران، حتى يعود باللحن إلى العاصمة للسيدة وردة جاهزا، ونجحت الخطة الفنية، وأبدع بليغ حمدي بعد أن اعتكف وحيدا في بيت في وهران، بطريقة باهرة ومكّن وردة من تفجير طاقاتها الفنية بأغنيتين بديعتين مازالتا تصنعان الحدث الفني والوطني لحد الآن. كان بليغ حمدي قد جرّب الزواج مرة واحدة من امرأة مصرية تدعى أمنية طحيمر، ولكنه طلقها بعد أقل من سنة من الزواج، ولم يعرف عنه سوى السهرات ولم يخض أبدا قصص الحب الحقيقي وكان همّه الموسيقى فقط والسهرات العابرة، وهو الذي لحن لأم كلثوم رائعة "حب إيه" ولم يكن سنّه قد بلغ الثامنة والعشرين عام 1960 ولحّن لعبد الحليم حافظ "تخونوه"، ولم يكن قد بلغ سن السادسة والعشرين عام 1957، قبل أن يلحن لوردة في جويلية عام 1962 لتبدأ قصة حب بلحن وتبعه انفصال وردة عن زوجها الجزائري في نفس الشهر، وهجرتها إلى مصر في أوت ثم المفاجأة الكبرى بزواجها في سبتمبر من بليغ حمدي في حفلة أقيمت في بيت الراقصة الشهيرة التي مازالت على قيد الحياة نجوى فؤاد، وحتى يوم زواجها بقي لغزا محيرا حيث كانت نجوى فؤاد تحتفل بزواجها فدعت صديقها بليغ حمدي وصديقتها وردة الجزائرية لعرسها، لتتفاجأ بإعلان بليغ حمدي عن رغبته في الارتباط بوردة، وتحوّل الإعلان في دقائق إلى حفلة زواج في بيت نجوى فؤاد، لتتناقله الصحف بشكل فاجأ الجزائريين الذين علموا بزواجها عبر جريدة الشعب، ولم يكونوا يعلمون أصلا بأنها تطلقت وهاجرت إلى مصر. وردة خطفت بليغ من أم كلثوم وعبد الحليم؟ عندما كتبت مجلة صباح الخير المصرية خبر زواج بليغ حمدي من وردة الجزائرية في خريف 1972، ركزت في العنوان وفي الخبر على أن الزواج مفاجأة فنية مدوية، فقد كان فريد الأطرش على قيد الحياة وكان عازبا كما رفض عبد الحليم حافظ الزواج إيمانا منهما بأن الزواج سيبعدهما عن التألق وعن المعجبات بهما، وكانت الحياة الشخصية للفنانة أم كلثوم من الطابوهات. أما زواج فنان بفنانة فتلك المفاجأة الكبرى، كانت أم كلثوم تنتظر حينها لحن "حكم علينا الهوى" من بليغ حمدي الذي جهزه لها بعد زواجه بعام فغنت اللحن عام 1973 ويعلم عشاق الطرب العربي بأن أغنية حكم علينا الهوى هي آخر ما غنت سيدة الطرب أم كلثوم، وهي للأسف أيضا أسوأ ما غنت مقارنة بالروائع العشرة السابقة التي قدمها بليغ حمدي للسيدة أم كلثوم مثل "أنساك" و"سيرة الحب" و"فات الميعاد" و"بعيد عنك" وخاصة "ألف ليلة وليلة،" وشكلت الأغنية خيبة للسيدة أم كلثوم، التي توقفت عن الغناء بعدها، إلى أن توفيت في فيفري عام 1975، بينما كان عبد الحليم حافظ ينعم بمجموعة من الألحان الناجحة بأنامل بليغ حمدي صديق عمره، التي هزت الطرب العربي في ذلك الوقت مثل "موعود" و"مداح القمر" و"زي الهوى"، وكان قد اتفق معه أيضا على لحنين مهمين، هما حاول "تتفكرني" و"أي دمعة حزن لا". وصار عبد الحليم لا يرى نفسه إلا مع بيلغ حمدي الذي يصغره بسنتين، بعد ابتعاده عن كمال الطويل ومحمد الموجي، إلى أن جاءت وردة الجزائرية وبخرت هذا الثنائي، وواضح بأن بليغ حمدي سيقدم عصارة ألحانه لزوجته وردة قبل أم كلثوم وخاصة عبد الحليم حافظ، إلى درجة أن بليغ حمدي لم يرجع لحليم إلا في آخر أيام عمره عندما قدم له أغنية "حبيبتي من تكون"، وانتقل عبد حليم بعدها إلى محمد الموجي الذي قدّم له أغنيتين ناجحتين "رسالة من تحت الماء" و"قارئة الفنجان"، وعاد أيضا في آخر عمره قبل أن يرحل، في نهاية مارس من عام 1977 في أغنية "من غير ليه" لمحمد عبد الوهاب التي لم يكتب له أن يؤديها. وبدأ عبد الحليم حافظ مثله مثل الكثير من الفنانين الذين تعامل معهم بليغ حمدي مثل شادية ونجاة الصغيرة وفايزة أحمد، يتابع أغاني وردة الناجحة، التي خطفت العقول وكلها من الروائع الخالدة، التي طاول بعضها روائع أم كلثوم. وبدأت أغاني وردة تهاطل مثل الغيث، أمام غيرة الفنانين والفنانات مثل " العيون السود" و"حكايتي مع الزمان" و"دندنة" و"لو سألوك" و"اسمعوني" و"اشتروني" و"خليك هنا و"احضنوا الأيام" حتى بلغت 26 أغنية في ظرف ثلاث سنوات، وهو رقم نافس أعمال عبد الحليم حافظ الذي غنى 29 لحنا لبليغ حمدي، ولكن في ظرف قارب العشرين سنة، ووجد عبد حليم نفسه مجبرا على إنقاذ نفسه، فأصبح يتوجه إلى بيت بليغ يطالبه بنصيبه من الألحان، ويذكّره بروائع "على حسب وداد" و"الهوى هوايا" و"موعود"، وهو ما أثار وردة التي طلبت من الشاعر سيد مرسي أغنية على مقاسها فغنت "أولاد الحلال"، التي تقول في أحد مقاطعها: كل يوم قاعدين في بيتنا يطلعوا يجيبوا في سيرتنا كل يوم .. ناس ما تحبش راحتنا. وبسهولة فهم الجميع بأن الناس الذين لا يحبون راحة وردة هم عبد الحليم حافظ، ولم تمر إلا سنوات قليلة، حتى حدث الطلاق بين بليغ حمدي ووردة الجزائرية، وكان بليغ حمدي قد بدأ يملّ من الزواج، ويبحث عن أصوات جديدة ونساء جدد أيضا، فتعرف على المغربية سميرة سعيد وقدم لها رائعة "دا اسمه كلام"، وقضى على حبه لوردة مع السورية الجميلة ميادة الحناوي التي تقل سنا بعشرين عاما عن وردة، فنجحت معه في الكثير من الألحان وأهمها أغنية "كان يا مكان"، وأنقذت وردة نفسها فنيا برائعة في "يوم وليلة" من ألحان محمد عبد الوهاب، ولكنها لم تنقذ نفسها من الطلاق. ولم تنس وردة أبدا بأن السبب الأول في طلاقها من بليغ وتوقف تيار روائعها الفنية، هو مجموعة من الفنانين وعلى رأسهم عبد الحليم حافظ الذي تلقى طعنة قيل إن أنصار وردة هم الذين رسموها، عندما أدى آخر أغانيه أمام الجمهور رائعة "قارئة الفنجان" من ألحان محمد الموجي وكلمات نزار قباني، حيث تفاجأ عبد الحليم بجمهور ارتدى قمصان بيضاء مرسوم عليها صورة الفنجان، ولأول مرة في حياة عبد الحليم حافظ، ثار وتوقف عن الغناء عندما فاجأه الجمهور بعاصفة من التصفير..فقام هو أيضا بالتصفير وصاح في وجه الجمهور بالتوقف عن الاستفزاز، وخرج بعد نهاية الأغنية غاضبا، واتهم وردة بكونها هي التي طعنته في الظهر، ويمكن للقارئ مشاهدة عبر اليوتوب هذه الحادثة وثورة عبد الحليم حافظ. ويُحسب للفنانة الكبيرة وردة أنها لم تقذف أي فنان في حياتها من خلال الكثير من حواراتها، وهي التي عملت مع كل العمالقة من دون استثناء ومنهم رياض السنباطي في رائعة "لعبة الأيام" ومحمد الموجي ومحمد عبد الوهاب وكمال الطويل، كما غنت "كلمة عتاب" من ألحان فريد الأطرش وطقطوقة لمحمد القصبجي ذات طابع ديني هي أغنية "إياك نعبد ما حيينا" التي كتبها الشاعر محمد مخيمر وهذا قبل رحيل محمد القصبجي عام 1966، وانتهاء بالملحنين صلاح الشرنوبي وحلمي بكر اللذين قدماها في صورة عصرية نافسا بها الأصوات الجديدة وتفوقت عليهم باعترافهم، فكانت فعلا مغنية الأجيال التي رصعت مكتبة الغناء العربي بأحلى الروائع، ويجمع أهل الطرب الآن على أنها كانت فعلا آخر عمالقة الطرب العربي الذين رحلوا عن الدنيا، بعد الرباعي فريد الأطرش وأم كلثوم وعبد الحليم حافظ ومحمد عبد الوهاب.