في الحقيقة العدالة أمس لم تبطل فقط صفقة تجارية مخالفة للقوانين السارية، تمت بين واحد من أرباب المال في الجزائر و مجموعة مساهمين باعوا حصصهم، و إنما أبطلت أيضا مفعول «السحر» الذي تعاطاه مجموعة من المضلّلين للرأي العام الوطني و المفترين على المؤسسات الرسمية للدولة .الحكم ببطلان الصفقة التجارية، أماط اللثام عن صفقة غير معلنة بين سياسيين و حقوقيين وإعلاميين وآخرين، كانوا في حالة عطب و سرعان ما راحوا يقودون حملة تضليل واسعة تشكك في نوايا السلطات العمومية لإعادة بسط سلطان القانون و ضبط أعمال و نشاط عدة مهن على علاقة وطيدة بالشأن العام. هذا الحلف الذي تشكل على أنقاض أحلاف أخرى عرفت نفس المصير، قاد طيلة ثلاثة أشهر سلسلة من الإفتراءات السياسية و المغالطات القانونية، لإستجداء و استعطاف الرأي العام الوطني و حتى الدولي، لإدارة معركة وهمية حول حرية التعبير و استقلالية الصحافة، و تكييف قرارات النظام كما يقال على أنها معادية للحريات العامة ومنها حرية التعبير التي تشكل حساسية زائدة لدى بعض الدوائر التي مازالت غافلة عن ممارسات مشينة ترتكب باسم حرية التعبير. قرار العدالة أمس أيّد تحرك السلطات العمومية و على رأسها وزارة الإتصال في تحريك الدعوى العمومية قصد الدفاع عن مصالح المجموعة الوطنية و حمايتها باللجوء إلى القانون، و هو ما فضّلت القيام به الوزارة دون المساس بمسار صدور الجريدة موضوع النزاع أو التأثير على مصالح العاملين فيها. العدالة أنصفت الوزير قرين و هو يلتمس منها بفعل جمهوري ملائم، إبطال صفقة تجارية تتعارض مع نصوص قانون الإعلام الذي يحرص على جعل هذا الحق في متناول جميع الجزائريين، كما هو الشأن في قطاعات أخرى تضمن الحق في التعليم و الحق في الصحة..إن التوضيحات الدورية الصادرة عن الهيئات المعنية بضبط الحياة العامة، و كذا الأحكام الأخيرة التي أصدرتها العدالة في قضايا متعلقة بقطاع الإعلام و المشتغلين فيه من الصحفيين و المنتسبين إلى المهنة، أظهرت مدى جسامة و خطورة المعلومات الخاطئة و المضللة التي تعمل بعض الدوائر من خلال نشرها على تسميم الأجواء العامة في البلاد و زرع الريبة في نفوس الجزائريين في ظرف بالغ الحساسية. ضمنيا العدالة أدانت أمس هؤلاء المضلّلين للرأي العام و الذين يبشّرون كل يوم على أعمدة الجرائد التي يديرونها و المنابر السياسية التي يطلّون منها، بخراب وشيك للجزائر و يتنبأون بثورة عارمة لا تذر و لا تبقي، ذلك أن القارئ العادي في الجزائر العميقة أصبح يتساءل بمرارة عن الأسباب الحقيقية التي تحرك فئة من الجزائريين يصنفون ضمن «رب عائلة مثالي»، و هم يستعجلون وقوع البلاد في الفوضى التي وقع فيها غيرنا و النتيجة القاتلة لا أحد بإمكانه تجاهلها.الرأي العام الوطني الجزائري له طريقته الخاصة في معاقبة المستهينين بذكائه و قدرته على قراءة الأحداث المتعاقبة و كشف محاولات تضليله بتسويق أخبار كاذبة و مغلوطة و جرّه إلى معارك لا تهمه من قريب و لا من بعيد. و القارئ أو المشاهد سيتخذ قراره مع الوقت، بمقاطعة الوسائط التي تحاول توظيفه و تأليبه ضد مصالح بلاده، أو جعله وقودا لمعارك انتخابية أو سياسية، استعجل أصحابها في الكشف عنها قبل وقتها المحدد.العدالة التي تصدر أحكامها باسم الشعب الجزائري، أرجعت الجريدة و توابعها إلى أحضان آبائها الأولين الذين حتّمت عليهم استئناف «المغامرة الثقافية» مهما كلفهم الثمن، و كذلك إلى المهنيين من الصحفيين الذين لم يأخذوا حقهم من الأرباح التي حققوها، كما أرجعتها إلى قرائها الذين سيحكمون عليها مستقبلا و على خطها الإفتتاحي بعد الإمتحان العسير الذي مرّت به. إبطال الصفقة قانونا يؤكد نية المشرع من خلال قانون الإعلام الساري المفعول، في الحفاظ على الحد الأدنى من حرية التعبير أمام جشع و نفوذ أصحاب المال الذين يريدون بطبعهم خنق و إسكات الأصوات من خلال الإستحواذ عليها و تطويعها.الأمر هذا ينسحب حتى على الديمقراطيات المتقدمة، فقد توصلت « لوموند ديبلوماتيك» التي تشكل آخر قلاع مقاومة هيمنة رأس المال الخاص على الحياة العامة في فرنسا، إلى حقيقة مفزعة و هي تراجع فضاءات حرية التعبير في وسائل الإعلام أمام شراهة رجال المال الذين يريدون شراء وسائل الإعلام بأي ثمن.