عبد الغني زهاني.. كلوروفيل طالعٌ من طينة الظّل.. -1- من يعرف عبد الغني زهاني؟ لا أحد.. قد يجيب العديد من الشعراء، ورغم ذلك، فإنّ مَن يطّلع على ما يكتبه هذا الشاعر (المغمور) يكاد يجزم أنّ كتابة بهذا المستوى من السلاسة لا يمكن أن تأتي إلا من إنسان خبر ممارسة الكتابة الشعرية أولا، واستطاع، ثانيا، أن يصل إلى مستوى من العمق لا يمكن أن نتصوره خارج تجربة حياة تمدّه بما يحتاجه الحرف من نسغ وبما تحتاجه الفكرة من تمثّل. بكلّ بساطة، ودون أيّ عناء يذكر، يضع الشاعر عبد الغني زهاني لمسته على الحروف فتستحيل إلى معنى نعيشه ولا نعرفه، نصادفه ولا نكتشفه، نمرّ بجانبه ولا ننتبه إليه كأنّه يسكب هذه النتف الشعرية كما تقولُ الحنفيّةُ الماءَ.. دفقٌ قليلٌ نادرٌ منتشٍ بالكتابة في قصيدة النثر كما يكتب الشعراء الفحول القصيدة العمودية. انسيابٌ في المعنى وتسلسل في البناء واقتصاد في العبارة وانصياع لما تحتاجه قصيدة النثر من تقنيات يبدو وكأنّ الشاعر قد تجاوز مرحلة وعيها وتمثّلها منذ زمن. 2- - ربما كان من الواجب الانتباه إلى ما يخبئه العالم الافتراضي من أزهار بريّة تنبت في الظل وكأنّها خُلقت له أو خُلق لها خصيصا لكثرة ما تداول روادٌ كثرٌ على المناطق المشمسة يتنافسون فيما بينهم زعامة الشعر وريادة المعنى وأناقة التصوّر النّظري لما يجب أن تكون عليه الممارسة الشعرية. قد لا يكون المكوث المستديم في الشمس دليلَ صحة وعافية شعرية دائما. فقد تكون القصائد الطالعة من تربة الظل أكثر صحة وعافية ونضجا وحلاوة تماما كما المذاق الذي ينشأ جرّاء تقلب عناصر الوجبة المرجوّة على نار هادئة وكأنّ الظل رديف الهدوء والهدوء رديف الليل والليل رديف القمر الذي لا نور فيه.. كأنّنا في عالم الظلال التي تتناوب على قصيدة الشاعر: «هذا القمر جميل/لكنه بحاجة لبطارية جديدة» لأنّ الشمس ليست دليل ابتكار بالضرورة. فقد تحترق العديد من النصوص، ومن ورائها تجارب أصحابها، جرّاء اقترابها المتسرّع وغير المسئول من مواطن الشمس المحرقة. ربما كان من حظ الشعر، أو بعضه، أن ينبت في المناطق البعيدة، والمساحات الشاغرة، والمتاهات غير المسكونة بضجيج الحيرة ومنابر الادّعاء. وهو، في ميلاده وترعرعه في مناطق كهذه، إنّما يفتح فرصةَ العمر لعمرِ الكتابةِ بأنْ تُصغي لأمعائها، وتتدثّر بمكامنها، وتنصت لهسيس الحروف الراغبة في قضم كالسيوم بيضة الحياة من الدّاخل، والإطلالة على العالم من حمأ التجربة غير المعروفة تماما وغير المسكونة بهاجس الوصول، وغير المختومة بما يتمناه الكثير من الشعراء المتسرّعين من قطْع مسافة الألف ميل في أقل وقت ممكن. ولعله لذلك، يشك الشاعر فيما يكتب وفيما يعيش لكثرة تردده على مناطق الظل المليئة بالمقترحات الحياتية التي قد تتحول إلى قصيدة قد يفشل فيها بقدر ما ينجح: «ما زلتُ قادرًا على تذّكر أَلَقِهَا/ تلك القصيدة التي مزّقتها ورميتها بعيدا/ من أجل استعارة فاشلة/ أو مجاز غامض/ وذهبت أدراج الرياح..». ذلك أنّ الشاعر ليس محطِّم أرقامٍ قياسيةٍ.. فكثيرا ما يحدث العكس في حالات كهذه حيث تحطّم الأرقامُ القياسيةُ الشاعرَ وفق هواها وتتجرأ على جرّه إلى مناطق ظلّ أكثر برودةً ممّا نبت فيه ونشأ واعتقد أنّه منتهى فسحته الوجودية: «آه.. أيّها البيت البعيد إنّي لا أجد خطواتي» ولأنّ الشيء يستدعي مثيله بقدر ما يستدعي نقيضه، فإنّ مناطق الظل التي ينشأ فيها هؤلاء الشعراء تجرّهم، لا محالة، إلى مفازات أخرى ذات ظلال وارفة لا تعرفها سماءات الشموس المُحرِقة فينقسم الشعراء بعدها على ضفتين لا تبغيان يفصل بينهما بحر من الاحتمالات تؤرق الشاعر أيّما أرق: ضفةٌ تحتكر الشمس إلى الأبد ولكنّها لا تستطيع احتكار الشعر، وضفّة أخرى يولد فيها الشاعر وينشأ ويموت في الظل متوسّدا القصيدة النابتة من ضلع بيئته. ألم يقل الأوّلون إنّ الشاعر ابن بيئته؟. - 3 - نفسُها القصيدةُ التي مزّقها الشاعر عبد الغني زهاني ورماها بعيدا لأنّها «لم تكن عن المحبةّ..»، و «لم تكن عن الكآبة..» و»لم تكن عن الطفولة..» و»لم تكن عن الرّحيل..» هي التي ستنبت من ضلع الظلّ الوارف كما لو لم تكن هي تماما.. كما لو أنّها هيّ ذاتها.. مليئة بالحزن الموجع وبالخيبة الحارقة وبالتواضع النبيل لما تقدمه الحياة من مقترح عيش آملٍ في التوق إلى الترنح على خط البرزخ الفاصل بين الظل والشمس، بين الحب والكراهية، بين الحياة والموت. إنّ من يقرأ النتف الشعرية لعبد الغني زهاني -الذي لا يمكننا أن نطلق عليه لقب شاعر بعد- يشعر وكأنّه يكتشف لأول مرّة عالما من الهدوء التام والطمأنينة المطلقة اللذين يقلّ نظيرهما في العديد من الكتابات الشعرية الجزائرية المعاصرة لأسباب قد يطول شرحها في هذه العجالة ليس أخطرها مقدار التعلق بخط الوصول الذي يضعه شعراء الشمس المتسابقون على إمارات الشعر المختلفة الألوان والأشكال والمذاق جدارَ تتويج أمام أعينهم. ولعله الهدوء الذي لا يمكن أن يسبق العاصفة نظرا لكونه متأتيا من مكوث صاحب هذه النتف الشعرية في الظل مدّةً يعلمها هو وحده، وليس من الأجدر أن يخبر بها الشعراء الآخرين، ممّا يجعل قصائده وكأنّها ماء زلال ينبع من عين حمِئةٍ لا يمكن ألاّ يستسيغها شعراء الشمس المتلهثون وهم يقرءون ما يمكن أن يصل إليه الجيل الجديد من تحكّم في أساليب الكتابة، ومن وعيّ بمُمكنات التجريب، ومن جرأة في استحداث فارق الفهم بين الموروث الشعري الذي تزخر به المدونة الشعرية الجزائرية وهي تتجاوز قرنا من الزمن تأسيساً وممارسةً وتجريباً، وبين ما يضعه الانقياد الطوعي لموضة المرحلة، أو لنسق الفكرة، أو لهرولة النخبة المأزومة بما لم تستطع تمثلّه من مفاهيم، وما لم تستطع تجاوزه من معوقات تقف حاجزا أمام تحقّق النص الجدير بالبقاء: «صديقي في الثمانين/لم أحدّثه منذ سنوات/ لأنّ بلاده بعيدة/ وقلبه ضعيف/ هذا الصباح/ عايدني بدمعة/لم تزل في عيني..». وقد يتعجب بعضهم فيقول: من أين لهذا الآتي من الظل، بوصفه معادلا لنقص الكلوروفيل، أن ينفجر بكلّ هذا الاخضرار المزهوّ ببساطة اللغة وبنصاعة الفكرة وبسلاسة الرؤيا الباطنة، وكأنّها براءة اختراع تؤصل لاختراع براءةٍ هي نسغ الشاعر البعيد عن الضجيج لأنّ الضجيج هو ما يتردّد في سطح الحياة الأملس بينما الظل دليل أمر ٍغامرٍ في النفس، محرّكٍ لهواجسها، ومُثوِّرٍ لما تختزنه من تصّور للحياة: «ما أريده من البحر ليس كثيرا/ أمدّ رجليّ/ رجليّ فحسب/ أترك الماء يغسلهما ويذهب/ مستمتعا بنعمة اللاشيء/ بغزارة النسيان». إنّه الاقتراح الكلّي النابع من بساطة المطلب الجامع لإرادة الحياة وفق ما تقتضيه اللحظة كما يتصورها الشاعر وهو يدلي برغبته التي تبقى رغبةً وحسب، ولكنّها تحمل تصوّرا لما يجب أن يكون عليه الشاعر بوصفه مركزا للعالم وهو ينسرب إلى ما لا يمكن أن يتصوره أفق القارئ النموذجي: أن ينصاع البحر، بما يحمله من رموز للقوّة والجبروت والظلمة والعتوّ، لإرادة الشّاعر ويغسل رجليه وكأنّ مدّ الرجلين هو اقتناع نهائيّ بلا جدوى خوض معركة القصيدة لأنّ الشعراء في الضفة الأخرى لم يصلوا بعد ما أسرّ له به الظل والماء وضوء القمر الخافت. إنّه هو الذي لا يريد كلّ ذلك وكأنّ الذي يريده من البحر «ليس كثيرا..» بل قليل. وكأنّ البحر سيخضع لإرادته.. هكذا، بكلّ بساطة، ماذا ترك الشاعر إذاً بهذا المطلب وهو يحفل بما تحفل به حروفه من نوايا طيّبة حدّ الثمالة؟ -4- ولعله لذلك يحاول الشاعر أن يتجاسر، من وضعيته الوجودية الملتحفة بما تكتنز الحروف من تصوّرات، على لوحة الحياة، كما ترسمها الضفة الأخرى، لينتبه إلى التفاصيل كما تعكسها مرآة الوجود المعلقة في قفاه لكثرة ما أدار ظهره لمشارق الشمس المقترنة، في فهمنا الساذج بالضوء الذي يبعث على الفرح: «كيف أَصِفُكَ أيُّها الفَرَح؟/ وأنا لا أراكْ.. إلا في عيون الآخرين/ بريقاً لاذعاً بالحَسْرة..». هو تصوّرٌ للفرح منعكسٌ في مرآة الذات حسرةً وبريقاً لاذعاً، ومحيلٌ إلى ما يعتمل في داخلها من غرابيب سود تكاد تنْعَصِرُ شعرا معتّقا من كثرة ما تدلّ على ما يحمله الليل من زمن أعمى لا يُقْدِم على شيء: «الليلُ../ ساعاتٌ عمياء/ تتحسس خطى النّهار..»، وكأنّه تبرير لما يمكن أن يحيل إلى عدمية العيش في «النسيان..» و«اللاشيء..». يقول الشاعر عبد الغني زهاني: «وأنت أيتها المسرة التي وعدتني بها الكأس/ أين أنتِ؟/ كلَّ مرة أَعُدُّ المصابيح ولا يطلع النَّهار/ أجفف أعماقي ولا أجدُ النَّبع/ أكسر الكؤوس فتجرحني الكلمات/ وأغفوا../كالذئاب حين تتعب/ من العواء/ طوال اللّيل». هل هي ضريبة البقاء في الظلّ؟ أم تأوهات الرغبة في الخروج إلى عوالم الشموس المحرقة؟ وهل ثمة من إرادة خفيّة لطيّ مرحلة الاكتفاء بالتأمل والشرب من العين ذات الماء الزلال واللغة الصافية؟ وهل يرفض الشاعر مأدبة الظلّ الوارفة باطناً في حين أنّها تعطي ألذّ ما لا يمكن أن يتحصل عليه لو انتقل إلى عالم الشمس المحرقة، عالم الضفة الأخرى، حيث يتزاحم الشعراء على باب السلطان ويتبارون في وصف المأدبة بأبيات موزونة تنخر عمود الشعر كما تنخر الدودة مِنساة الوقت؟