العنف والموت في روايات بشير مفتي أكدت الباحثة سامية غشير أن التّجرِبة الرٍّوائيّة لبشير مفتي» تعدّ شهادات حيّة على أزمنة العنف الجزائري وعلى تحوّلاته، فاغترفت تيماتها من أزمات الوطن ومحنه،.كما تمثّل تجربة روائيّة جديدة متميّزة بخصوصيات وتقنيات تجريبية جديدة، واكبت مختلف التّحوّلات المختلفة التي شهدتها، كما أثارت أيضًا أهمّ القضايا المعاصرة والتي تتصلّ بالإنسان المعاصر، وبمشاغله المختلفة. بعد عمل علمي تبنى المنهج الموضوعاتي في تشريح تمظهرات العنف، الموت، المثقف والاغتراب في تجربته الروائية. د. عبد الرحمن خلفة ففي رسالة دكتوراه معنونة بالتّجربة الرّوائيّة عند بشير مفتي» – دراسة موضوعاتيّة- ناقشتها الباحثة غشير ونالت بها درجة مشرف جدا بجامعة باجي مختار بعنابة، غاصت على مدى أربع سنوات في روايات؛ و لم تغادر (غرفة الذكريات) كما وعدت؛ بل بقيت فيها لتنبش في سيكولوجية هذا الهارب وتتبع (سيرة طائر الليل )، لتكتشف أن ذاكرته ذاكرة وطن متخم بالجراح، ومن خلالها يمكن التأريخ لفترة زمنية عصيبة من تاريخ الجزائر. فقد كان عسير على غشير أن تعيد ترتيب الأوراق المبعثرة زمنيا ومكانيا وموضوعاتيا، أوراق تمخض بها رحم ظل يعج بلون الدم ورائحة الموت، على مدى عقد من الزمن، زمن العنف والغربة والاغتراب، دفاتر تنتمي إلى أزمنة وأمكنة مشرعة على الميثولوجيا، كان عليها أن تجمع أوراقا كثيرة مبعثرة داخل الغرفة، أو تتسلل أحيانا إلى مدينة الأشباح لتجمع ما تناثر منها في أزقتها، وتنفض عنها غبار الدروب وتمسح عنها دم الضحايا ودموع الثكالى، لترسم سيرة ذاتية لسرد الروائي وأغراضه، بما يسهل عليها ترتيب أوراقه في رفوف متجانسة. مكنتها أربع سنوات من الخلوة في ذاك الأرخبيل؛ الذي لم يلجأ إليه إلا المثقفون زمن الغربة والاغتراب؛ من اختراق جدار الصمت في ذاته واستنطاق سطور أوراقه وما بين تلك السطور، ولم تجد بدا من تبني المنهج الموضوعاتي الذّي ينهض بآلياته وإجراءاته على البحث في التيمات المهيمنة والفرعيّة المنبثقة عنها، إضافةً إلى دراسة الجوانب الفنيّة؛ لأنّ هذه الجوانب تتواءَم مع المنهج الموضوعاتي، منهج رأت فيه الأصلح لمقاربة أوراق بشير مفتي ومساءَلة نصوصها وإضاءة الجوانب المعتّمة للتيمات، دون أن تغفل عن مناهج أخرى تستعين بها أحيانا في إضاءة الدهاليز الأكثر عتمة؛ على غرار المنهج السّيميائي والاجتماعي والنّفسي التي أسهمت في معالجة مختلف القضايا التي أثارها البحث، والإحاطة بجوانبه المختلفة. وبعد أربع سنوات من إعمال هذه المناهج المتشابكة والتنقيب والحفر الأركولوجي في المادة المعتمة أفضت بها السبل إلى إعادة ترتيب أوراقه ترتيبا موضوعيا داخل رفوف متناسقة، تعتلي درجا أرضيا. ففي الدرج الأرضي وضعت أوراقا تسللت تدريجيا من خلالها إلى عوالمه، فوقفت على تجربة «بشير مفتي» الرّوائيّة من خلال الإجابة عن أسئلة الإبداع وشواغل الكتابة عنده والمرجعيات الفكريّة التي بلوت أفكاره ورؤاه ومواقفه، إضافة إلى أبرز الشّخصيات والفلسفات التي أثرّت في بناء تجربته. روايات ولدت من رحم الأزمة بلون الدم ورائحة الموت والعنف وفي الرف الأول لملمت أوراقا تعج بالعنف والألم والدم، وفي كل ورقة شكل من أشكال العنف في «تجربته» العنف السّياسي، بصوره: عنف السّلطة وعنف الأزمة الجزائرية والإرهاب، والعنف الاجتماعي الذي تمظهر في أشكالٍ كثيرةٍ منها: عنف السّلطة الأبويّة، والعنف ضدّ المرأة، وما تفرّع عنها من تيمات فرعيّة أخرى كالاغتصاب، والإرغام على الزّواج، وغيرها، والعنف الرّمزي؛ سواء كان عنف رمزيا في روايات الثّورة الجزائريّة التي عالجها الرّوائي من منظور رمزي، من خلال إضاءة الأماكن المعتّمة فيها، وتشخيص رجالاتها، والتّصريح بالمسكوت عنه، أو العنف الرّمزي الذّي يمارس ضدّ الجسد الإنساني، وعنف النّص الذي تمظهر في عنف اللّغة، وعنف الزّمن، وعنف الفضاء. نعم لقد مارس الرّوائي العنف على النّص من خلال إعلانه القطيعة مع جيل الرّواد، واختراق التّجريب والمغايرة. رغم أنه وظّف لغة فصيحة، شعريّة، تفوح برائحة المأساة والموت، ساعدت على تشريح الواقع وتناقضاته المختلفة. علاوة على التّقنيات الدّلاليّة التي وظفها الرّوائي لكسر رتابة السّرد مثل التّكثيف الدّلالي، الوقفة الوصفيّة، الحوار المشهدي، الثّغرات، إضافةً إلى البياضات. والكتابة الأفقيّة وفي مرّات قليلة اعتمد على الكتابة العموديّة والتي تتجسّد من خلال الحوارات بين الرّاوي والشّخصيّات، وإن لم يغفل لغة المناجاة في محطّات عديدة، ولغة عاميّة في محطّات قليلة. وفي الرف الثاني وضعت أوراق تجربة الموت عند بشير مفتي، وفي ثنايا تلك الأوراق ستطوف في عوالم نفسية وإنسانية واجتماعية ودينية، وصوفية، حول ماهية الموت وفلسفته وسؤاله ورمزيته وأنواعه وأشكاله في الرّوايات، على غرار الموت الإنساني، المادّي والمعنوي، وموت المكان والزّمان حين يقدم تقديم الرّوائي المكان الجزائري بصورة سوداويّة مميتة، إضافةً إلى تجليّات الزّمن الذّي تمظهر في زمن فلسفي غير طبيعي، والموت الرّمزي في الرّوايات الذّي تجسّد في الموت الأسطوري من خلال اِستحضار الأساطير كروافد جماليّة وأقنعة، والموت الصّوفي الذي تجسّد في توظيف بعض الرّموز والدّلالات الصّوفيّة. ودورهما في معالجة القضايا الإنسانيّة وفهم الوجود، ومعرفة العالم وإدراك الذّات، وهذه الآراء لن تكون بالضرورة آراء مفتي بقدر ما هي آراء الروائيين الجزائريين وغيرهم. أشباح المدينة تعبر أزقتها والمثقفون بين الغربة والاغتراب أمّا الرف الثالث فقد أدرجت فيه أوراقا من عقد مضى ظهر فيها المثقف فجأة في روايات بشير مفتي». سواء في صوره وتمثلاته؛ على غرار المثقف اللّامنتمي، المثقف السّلبي الانهزامي، المثقف المتمرّد المعارض. أو في علاقته بالمرأة؛ حسيا أو رمزيا، معربا عن الأدوار التي تؤدّيها المرأة في حياة المثقف، وتأثيراتها الفاعلة في عمليّة إنتاج الثقافة والفكر وتنميّة ملكته الإبداعيّة، ومن جهة أخرى تمثلّ له رمزًا وطنيًّا يتوحدّ به، ويقيم فيه. أو صور اغتراب المثقف داخل ذاته، وداخل مجتمعه، وداخل وطنه، اغتراب تمظهر في الاغتراب الوجودي، والاغتراب السّياسي، والاغتراب الاجتماعي، والاغتراب الثّقافي. في الدرج الثالث أنهت غشير ترتيب أوراق مفتي موضوعاتيا، وكان يكفيها ذلك لتغادر غرفة الذكريات وأرخبيل الذباب؛ لو كانت عالمة نفس أو عالمة اجتماع؛ لكنها في البداية والنهاية أديبة؛ وناقدة، والأديب الناقد لا تكفيه موضوعات الرواية مهما كان عنفوها وعنفوانها؛ ما لم تعرض في صورة فنية لائقة بمقامها الزكي، شأنها شأن البناء المعماري الذي يتطلب إلى جانب ركام وسائل البناء هندسة فنية راقية؛ لذلك أبت أن تغادر الغرفة حتى تكتب شيئا عن عناصر التّشكيل الفنّي في روايات «بشير مفتي» وتدرجها في الرف الرابع؛ وكذلك حدث؛ فقد تركت هناك دراسة عن البناء الزّمكاني، وطريقة معالجة الرّوائي لهما، إضافةً إلى التّطرّق إلى مستويات اللّغة الموظّفة في الرّوايات، ودراسة عن تمظهرات الرّاوي والمروي له، والتّطرق إلى خطاب الميثاروائي وخطاب الذّاكرة. فكشفت عن تميّزّ التّشكيل الفنّي لروايات «بشير مفتي» بعدّة خصائص؛ منها؛ توظيف بناء زمكاني مأساوي عنيف،كما جنح الرّوائي أكثر إلى توظيف اللّغة الشّعريّة التي تجلّت أثناء سرد الأحداث،أو وصف الأماكن والشّخصيّات،بحيث أسهمت هذه اللّغة في إبراز الدّلالات العميقة، وفي تجسيد البعد المأساوي الفجائعي،كون الرّوايات تركّز على إجلاء الأبعاد المأساويّة للمكان، الزّمن، الشّخصيّات، الأحداث. الباحثة طرحت عذة أسئلة من قبيل: كيف عالج الرّوائي بشير مفتي الرّاهن الجزائري روائيًّا؟، ماهي أهمّ المرجعيات الفكريّة والأطر المعرفيّة التي ارتكز عليها الرّوائي في بناء تجربته الرّوائيّة؟ ماهي أبرز التيمات التي عالجها الرّوائي في رواياته؟ وكيف تعامل الرّوائي مع هذه القضايا؟ وهل أفلح في تناولها سرديًّا؟ للإشارة فقد أشرف على الرسالة أ.د. سعيد بوسقطة، وتمت مناقشتها من طرف الأساتذة: صالح ولعة، عائشة رماش، رشيد قريبع، نبيل بوالسليو. جدير بالذكر أن الباحثة سامية غشير تكتب القصة والرواية والمسرح.