شريان الحياة الذي قطع الأرزاق في عدة بلديات بالشرق روبورتاج /عمر الشابي - تصوير / الشريف قليب تحولت الحياة بشكل دراماتيكي على جانبي الطريق الوطني رقم 05 بمجرد فتح شطر الطريق السيار بين قسنطينة والعاصمة في الخامس من جويلية الجاري، فصارت البلدات و القرى و البلديات الصغيرة التي كانت تعيش على حركة التنقل الكثيفة بين شرق البلاد و وسطها مقفرة كئيبة و توشحت بمسحة حزن عميق مكتوم بفعل التراجع الكبير للحركة التجارية التي كان يدرها الطريق الوطني رقم 05 لعنة الطريق السيار الشريان الحيوي الذي قطع أرزاق العشرات من العائلات على إمتداد أكثر من 250 كيلومتر من قسنطينة شرقا إلى بلدية الياشير بولاية برج بوعريريج غربا لاحقت التجار الصغار الذين ظلوا لسنوات طوال و على تعاقب الأجيال يحترفون خدمة المسافرين، لكن فتح الطريق السيار قضى فجأة على المشاريع الصغيرة والتي تطمح أن تكبر يوما على محور الطريق و صارت المطاعم و المحلات الصغيرة و المقاهي و محطات بيع الوقود و مختلف الخدمات منبوذة و أغلق العديد منها الأبواب في عز فصل الإصطياف و الراحة و كل العيون كانت مصوبة نحو الطرف الآخر، ذلك الشريط الأسود الملتوي في الأفق القريب الذي تعبره المركبات بسرعات كبيرة و لا تكاد تجد خلاله منفذا لدخول قرية صغيرة. عندما تغير الطريق حقائق الجغرافيا تلك هي المعجزة اليابانية في الشرق الجزائري غادرنا قسنطينة صباح الإثنين الماضي صوب الياشير في حدود الساعة الساعة السادسة و عشرين دقيقة عبر محول الطريق السيار بمنطقة زواغي قرب مطار محمد بوضياف و كانت المشكلة الأولى هي التزود بالكمية الكافية من الوقود لأن الطريق السيار لا يزال غير مجهز بمحطات نفطال و ما يرافقها من خدمات يتضمنها برنامج المشروع الضخم الذي غير حقيقة الجغرافيا في منطقة الشرق الجزائري، و جعل المسافات البعيدة قريبة كما ترك العديد من البلديات معزولة تترقب بخوف مظاهر العودة إلى الوراء بفعل تراجع الحركة التجارية فيها بفعل التحول الذي فرضته قدرات مجمع "كوجال" الياباني الذي قام بالإنجاز العظيم و أنهى سحر الطريق الوطني رقم 05 العابر لعشرات المدن الصغيرة و عبره كانت تسافر الملايين من الناس شرقا و غربا. هل كان يصدق أحد أن شلغوم العيد على مسافة 55 كيلومترا بولاية ميلة لا تبعد عن زواغي في قسنطينة سوى بمقدار 17 دقيقة من الزمن و أن الوصول إلى تاجنانت بنفس الولاية لا يستغرق سوى 25 دقيقة و يحتاج المرء إلى نصف ساعة فقط ليدخل تراب ولاية سطيف و تتراءى له من بعيد بلدية بئر العرش و بعد ثمانية دقائق يصل إلى العلمة و خلال ساعة إلا ربع يكون قد طرق باب عاصمة الهضاب العليا سطيف و منها إلى عين أرنات و عين تاغروت و بعد ساعة و 20 دقيقة يكون في برج بوعريريج و يصل الياشير في غضون ساعة ونصف لا أكثر. كانت سيارتنا "شيفرولي" تسير بسرعة رغم أن اللافتات على جانبي الطريق تحدد السرعة القصوى ب 120 كلم في الساعة، ولكن غياب المراقبة لحركة المرور و عدم وضع الرادارات في تلك الساعات الأولى من النهار ترك الجميع يطلق العنان لسرعته و تنافست المركبات بجميع أصنافها في السير براحة و حرية وعلى طريق لا مثيل له على شبكة الطرق الوطنية. فرض غياب محطات التزود بالوقود علينا الدخول إلى مدينة سطيف و خلال 10 دقائق عدنا إلى السير على الطريق السيار بإتجاه الياشير التي شربنا فيها قهوة الصباح في حدود الساعة السابعة و 47 دقيقة. قال صاحب المقهى و هو يعد طاولات الطعام و يجهز اللحم للشواء و تلك هي الشهرة التي أخذتها الياشير منذ عقود في أذهان كل المسافرين عبر الطريق الوطني رقم 05 أن فتح الطريق السيار قلص من حجم إقبال الزبائن على مطعمه لكن الشهرة الواسعة لمدينة الياشير و قربها من محول على الطريق السيار و غياب محطات الوقود يجعل المسافرين يفضلون دخولها و لو لبرهة من الزمن بغية قضاء عدة حوائج منها تناول الشواء و كان محدثنا يخفي مخاوفه من المستقبل و يتمسك بالصيت الذائع لشواء مطاعم البلدة في مواجهة الحقائق المتغيرة. مناطق تستغل شهرتها لمواجهة التقهقر و أخرى تدخل العزلة من جديد كانت الياشير فعلا أفضل حالا من بلديات مجاورة لها على طول الطريق الوطني رقم 05 الذي كان مسلك عودتنا نحو قسنطينة، فقد أقفرت مناطق بكاملها و أغلقت مطاعم كانت غاصة بالزبائن و تغيرت ملامح الحياة في عين تاغروت و مهدية التي كان سكانها في ذلك الصباح ينتظرون بلهفة وسيلة نقل تبلغهم مقصدهم بينما كانت الحافلات لا تنقطع عن وسط بلديتهم جيئة و ذهابا في وقت سابق، لكن الطريق السيار تركهم يستظلون بالأشجار على قارعة الطريق يتسولون وسيلة نقل و يمدون أيديهم للشاحنات و الجرارات و سائر المركبات لنقلهم إلى حيث يقصدون. المطاعم القليلة التي بقت مفتوحة كانت تعد طعامها للزبائن المحليين من الناس و ذلك ما يدل عليه تثاقل العاملين بها في إشعال نار المشواة بينما يكاد النهار ينتصف، و أما البعيدة عن مركز البلدية فقرر أصحابها غلقها نهائيا مثل مطعم التقوى المجاور لمحطة توزيع الوقود بين عين تاغروت و مهدية و قد طالت اللعنة محطة الوقود نفسها بهجران المركبات لها و بقاء عامل التوزيع فيها دون مهمة و راح يقرأ الجريدة و هو يجلس ساندا ظهره إلى آلة التوزيع وسط المحطة المقفرة، بينما كان لا يكاد يجد لحظة لشرب الماء في أيام إزدهار الحركة على الطريق الوطني رقم 05. إفتقرت العديد من البلديات على طول الطريق إلى منافذ للدخول إلى الطريق السيار و هو ما جعلها بعيدة برغم قربها من الطريق الذي سيدخل تغييرات كبيرة على المناطق التي يتواجد فيها، ولكن توزيع المداخل بقيت متوازنة لكي يكسب الطريق السيار صفته كشريان حيوي تسري فيه الحركة مسرعة لتصل الأقاصي ببعضها في وقت مناسب. قسنطينة كعاصمة للشرق الجزائري تملك حتى الآن أربعة مداخل للطريق السيار من أقصى الشرق على المريج و من الجنوب في منطقة سيساوي و قرب المطار بمنطقة زواغي و المدخل الرابع في عين السمارة على الجهة الشرقية للولاية و لا يزال مدخل المريج فقط غير مفتوح لأن الجزء العابر لمنطقة المريج لا يزال غير مفتوح و مثله أنفاق جبل الوحش، أما ولاية ميلة ففيها منفذان على الطريق السيار الأول قرب واد العثمانية من جهة الشرق و هو الذي يفتح الطريق نحو ميلة و جيجل و التلاغمة ، و الثاني يتوسط المسافة بين شلغوم العيد و تاجنانت و لولاية سطيف مدخل أول نحو العلمة و آخر نحو سطيف و بجاية و ثالث بإتجاه مطار فرحات عباس و عين أرنات، كما برج بوعريريج مداخل نحو عين تاغروت و معها رأس الوادي و برج بوعريريج و مدخل إلى الياشير و إلى الطيب ذكره المأسوف عليه الطريق الوطني رقم 05. "فقدنا الرزق و لم نفقد الأمل" تباينت التأثيرات من بلدية لأخرى بفتح الطريق السيار لكن فتى صغير في مقهى و مطعم الفوارة ببئر العرش كان صادقا حين قال فقدنا الرزق لكننا لم نفقد الأمل و كان يتابع شريطا تلفزيونيا على قناة "ناشيونال جيوغرافيك أبو ظبي" حول عظام حيوان الماموث المنقرض و مقارنتها بعظام الفيلة الحديثة، قال أن النشاط تدهور كثيرا و لم يجد بعد الساعة الثانية زوالا من يستهلك القسم الثاني من بلاطو "الميلفاي" الموضوع أمامه على المصرف بينما كان يبيع عدة بلاطوات يوميا و يزيد في المساء، و بلهجة المكابر قال الفتى أن المقهى و المطعم يبقيان مفتوحين ليلا كعادتها أيام عز الطريق الوطني. مست التغييرات حتى مصالح الشرطة والدرك فبقي عناصر الجهازين عاطلين عن العمل مؤقتا نظرا لحركة المرور الخفيفة على الطريق المكلفين بمراقبته و قد إستراح بعضهم تحت الأشجار و لا يكاد البعض الآخر يلقي بالا للسيارات العابرة و كان المرور وسط تاجنانت أسهل بكثير مما كان عليه من إزدحام و كانت الطريق الرئيسية وسط البلدية مقفرة تماما حين مرورنا و هو نفس ما لاحظناه في شلغوم العيد التي كان سكانها وحدهم من يسلك شوارعها. سيكون للطريق السيار تأثيرات أخرى غير ملحوظة الآن و سيمس التغير الذي يفرضه مناحي عديدة من الحياة في الجهة الشرقية بكاملها و لكنه يبقى إنجازا عملاقا تغطي فوائده و منافعه كافة تأثيراته الجانبية غير السارة و سيبقى لعقود طويلة أهم منجزات الجزائر المستقلة.