الرواية زبدة المعرفة مرزاق بقطاش روائي وقاص ومترجم وكاتب صحفي جزائري من مواليد العام 1945، عمل في الصحافة الجزائرية منذ 1962، وفي أثناء ذلك واصل دراسته الجامعية في جامعة الجزائر، فتخرج بشهادة الإجازة في الترجمة (عربي فرنسي إنجليزي). هو عضو سابق في عِدة مجالس وطنية منها: المجلس الاستشاري الوطني، المجلس الأعلى للإعلام، المجلس الأعلى للّغة العربية، والمجلس الأعلى للتربية. أُنتدب للعمل في وزارة الإعلام ثمّ عُيّن نائباً لرئيس تحرير جريدة "المجاهد". كما عمل في عدة جرائد أخرى منها جريدتا «الشعب» الصادرة باللّغة العربية و»الوطن» الصادرة باللّغة الفرنسية. وأيضا عمل لسنوات في وكالة الأنباء الجزائرية. حاورته: نوّارة لحرش لمرزاق بقطاش الكثير من الإصدارات الأدبية في الترجمة والرّواية والقصة، منها على سبيل الذكر: "جراد البحر" صدرت العام 1978عن مجلة آمال بوزارة الإعلام والثقافة، «كوزة» العام 1984 عن المؤسسة الوطنية للكتاب، "المومس والبحر" العام 1986 عن نفس المؤسسة، "دار الزليج"، "بقايا قرصان". «طيور الظهيرة» العام 1976، نشر مجلة آمال بوزارة الإعلام والثقافة، "البزاة" العام 1983 عن الشركة الوطنية للنشر والتوزيع. «قفزة في الظلام» العام 1986 عن المؤسسة الوطنية للكتاب. أيضا «دم الغزال»، «عزوز الكابران»، «يحدث ما لا يحدث» و»خويا دحمان» العام 2007 والتي صدرت في إطار الجزائر عاصمة الثقافة العربية. «رقصة في الهواء الطلق» عام 2011، عن دار الآداب/بيروت، «الرطب واليابس»، «وداعا بسمة»، «أغنية البعث والموت». «نهوند» عام 2016. وآخر إصداراته، كانت رواية «المطر يكتب سيرته» في صيف 2017 عن مؤسسة آناب، وبفضلها نال «جائزة آسيا جبار للرّواية» في دورتها الثالثة أواخر ديسمبر 2017. في هذا الحوار، يتحدّث مرزاق بقطاش، عن مسيرته الأدبية وعن الرّواية الجزائرية وأشياء أخرى. بين القصة والرّواية والمقالة تندرج اشتغالاتك الفكرية والأدبية. أين تجد طقسك ومناخك أكثر؟ مرزاق بقطاش: الأشكال الأدبية كلّها تعجبني على الرغم من أنّني لا أرتاح للنقد الأدبي، خاصة ذلك الّذي يُكتب عندنا، لأنّه ما زال في معظمه شرحا على الشرح، وليس إبداعا على غرار ما كان عليه في العهود الزواهر. أقرأ عبد القادر الجرجاني وقدامة بن جعفر وابن طباطبا وغيرهم من أفذاذ النقد الأدبيّ العربيّ فأرى في كتاباتهم إبداعا على الرغم من أنّها في معظمها عبارة عن شروح وتفسيرات. القصة فنٌ جميلٌ جميلْ، والرّواية فنٌ أجمل وأروع، والمقالة الأدبية بين بين وهكذا دواليك. ولما كنت أرى أنّ الإبداع الأدبي حالة نفسية في المقام الأوّل، فإنّه يروقني أن أقفز بين هذه الأشكال الأدبية كلّها، وأضيف إليها الترجمة الأدبية التي أعتبرها عشقا وتصوفا بالدرجة الأولى، بمعنى أنّني لا أترجم شيئا لا أحبه، ولا أتواصل معه. ويمكنني القول أيضا في هذا السياق إنّ القصة أشبه ما تكون بالألوان المائية، أي إنّني أضعها دفعة واحدة على الورق، تماما مثلما يفعل الرسام التشكيلي الّذي يعمد إلى استخدام الألوان المائية، وكذلك الشأن بالنسبة للمقالة الأدبية التي لا تستغرق مني أكثر من عشرين دقيقة في معظم الأحيان. أمّا الرّواية فهي في نظري زبدة المعرفة الإنسانية. إنّها البحث المستمر في سبيل الحصول على شيء جميل متناسق متناغم، ولذلك فإنّني أكتبها بلا انقطاع، أي إنّني أكتبها دون أن يكون بين يدي موضوع أعالجه، فالمهم فيها هو الحياة. وما أكثر عدد الروائيين الذين لم يكتبوا طوال حياتهم سوى رواية أو روايتين لكنّهم ظلوا يعيشون الكتابة الروائية باستمرار. أحسب أنّني واحد منهم. الرّواية هي فن هذا العصر وصارت تنافس التعبير الشِّعري في جميع لغات الدنيا «ليس بالضرورة أن أجسد نفسي في رواياتي». هكذا تقول. برأيك من يجسد الروائي أكثر؟ أليس الروائي صوت الأنا والآخر غالبا؟ مرزاق بقطاش: أكرر قولي: «الرّواية زبدة المعرفة» حسب مفهومي الخاص. إنّها مجموعة أصوات معرفية، وهي تزداد اتساعا في أيّامنا هذه بحكم اتساع نطاق الحياة. الّذي يكتب رواية يكون مشغولا بالبحث على الدوام، وإلاّ فإنّه يكتب روبورتاجا ويكتفي بذلك. والروائي الّذي يتحدّث عن نفسه، قد يكتب رواية أو روايتين، وقد ينتهي به الأمر إلى التوقف بعد ذلك. أمّا ذلك الّذي يغوص في بحر الحياة، وفي أعماق نفسه ويتأمل حركة التاريخ والمجتمع، وينشد في الوقت نفسه هدفا جماليا، فإنّه قلما يقف عند حدود نفسه، ومن ثمّ، فهو في حالة مخاض مستمر. عندما كتبتُ روايتي الأولى (طيور في الظهيرة)، كنتُ أتصوّر أنّني البداية والنهاية، ومن ثمّ، أدرجت فيها الكثير من عندياتي، أي من نفسي، بحكم أنّ البطولة فيها أسندت إلى طفل، وكنتُ يومها طفلا يرصد حركة الثورة الجزائرية، لكنّني تعلمت بعد ذلك أنّ الرّواية أعظم من ذلك، بل هي أعظم من الفن الملحمي، ذلك الّذي لم يكن فيه إلاّ بعدٌ واحد، هو البعد البطولي. أجمل ما في فن الرّواية هو الإسقاط النفسي والتاريخي والاجتماعي والاقتصادي والفلسفي. والروائي لا يمكنه أن يكون مُلمًا بهذه الجوانب كلّها على الرغم من أنّه يتعين عليه أن يعالجها جميعا، أن يُقحم فيها ذاته. ولذلك، نقرأ على صفحات الجرائد تصريحا لهذا أو ذاك يتحدث فيه عن روايته الفلانية أو الفلتانية زاعما أنّه جمعَ فأوعى. أمّا فيما يخصني، فأنا أقرأ باستمرار وأكتب باستمرار وأتأمل الحياة باستمرار، وعلى القارئ أن يضعني في هذه الخانة أو تلك. الواقعية، الرمزية، السحرية، الغرائبية، تيارات ومناخات للرّواية، أي تيار يشدك ويسحرك أكثر، وهل مازلت وفيًا للواقعية؟ مرزاق بقطاش: الواقعية بمفهومها العادي، وليس بمفهومها الإيديولوجي. وأنا في الحقيقة أحب جميع هذه التيارات الروائية، خاصة في المناطق التي نشأت فيها، أمّا أن تكون مُقحمة هنا وهناك، فذلك ما لا أرتاح له مطلقا. قد يكون التجريب أمرا مُحببا في الفن الروائي، لكنّه ينبغي أن يكون بمقدار في العالم العربي على سبيل المثال. التيارات الروائية عبارة عن تجارب مختلفة نشأت في مناطق معينة، والأخذ بها قد يكون محمودا، لكن شريطة أن يأتي الكاتب الروائي بشيء جديد. واقعية نجيب محفوظ جميلة جدا، رمزية وتجريبية الطيب صالح شيء جميل، النفس الملحمي لدى عبد الرحمن منيف شيء جميل هو الآخر. والشيء الّذي أمقته في الكتابة الروائية هو أن يكتب أحدهم على طريقة الأوربيين، وأعني بذلك الكتابات الجنسية الفاضحة المفضوحة. واقعية محمد ديب عندنا في الجزائر ما تزال تحتل مرتبة عالية، وكذلك كتابات مولود معمري. وبتعبير آخر، الواقعية هي الواقعية السردية، أي تلك التي يتحدّث عنها الروائي الأمريكي جون شتاينبك حين يصف العمل الروائي بقوله: «أنا لا أتصوّر روائيا دون أن تكون قبالته مجموعة من ورق وفي رأسه حكاية يريد سردها!» وأنا مع هذا الرأي الأخير، هذا النوع من الواقعية هو الّذي يُريحني، وأنا بطبيعة الحال لا أريد أن أفرض رأيي هذا على أحد، ذلك لأنّ الأدب الأصيل هو الحرية. الرّواية هي هذه الحرية التي نبحث عنها مشرقا ومغربا بالمناسبة كيف تنظر إلى موجة الجنس التي أصبحت طاغية في الروايات الجديدة؟ مرزاق بقطاش: إنّني أستسخفها. الغربيون شرحوا الجسد الإنساني خلال عصر النهضة، وطلعوا على دنيا الفن التشكيلي والنحت بالعديد من الروائع حين رسموا أجسادا عارية أو نحتوها، لكن غايتهم كانت فنيّة ودينيّة، ولم تكن غاية نفسية، أي غاية من غايات الليبيدو على حد تعبير النفسانيين. وهل آتي بجديد لو أنّني صورت امرأة عارية، أو عملية جنسية؟ تقول كاتبة عربية: «الكتابة عن الجنس تحتاج إلى تجربة وليس إلى مخيلة». برأيك هل هذا صحيح، وإلى أي حد يمكن أن يكون الروائي حصيلة تجارب لا حصيلة مخيلة؟ مرزاق بقطاش: ألخص لكِ موقفي في هذا الشأن: أنا لا أكتب شيئا لا أقوى على عرضه على أفراد أسرتي!. ما هي أهم مرجعيات أو متكآت الرّواية الناجحة، هل الواقع أم الخيال؟ مرزاق بقطاش: لا أعتقد أنّ هناك «مرجعيات» محدّدة في هذا الشأن. الواقع يتمازج مع الخيال، وهكذا دواليك. هناك من يرى أنّ الرّواية الفلتانية ناجحة، بينما الأخرى فاشلة، والحقيقة هي أنّ المسألة مسألة ذوقية وثقافية في المقام الأوّل. هناك من يرى أنّ رواية (الخيميائي) لباولو كويلو ناجحة، وأنا لا أرى فيها شيئا خارقا، وقد يعود ذلك إلى أنّ موضوعها عربي إسلامي، أي إنّني أعرفه وأعايشه. وهناك من يرى أنّ رواية (دون كيشوت) أعظم رواية على الإطلاق، وأنا لا أتحمس كثيرا لمثل هذا الرأي. الواقع هو الواقع، غير أنّ الخيال هو الإسمنت الّذي يجمع بين لبنات هذا الواقع بالذات. أعتقد أنّ من يريد أن يضع تحديدات في هذا الشأن إنّما يقف في وجه الفن الروائي، بمعنى أنّ المهم في الأمر كلّه هو العملية الإبداعية، وبالتالي، فهو الكتابة نفسها. غير أنّني ألح كثيرا على أهمية اللّغة في الكتابة الروائية، وذلك ما نفتقر إليه كثيرا على الرغم من حجم ما أُنتج من روايات منذ مطالع القرن العشرين. النقد الادبي في الجزائر شرح على الشرح أيّهما تفضل في المتن السردي: الاتكاء على الاجتماعي أو السياسي؟ مرزاق بقطاش: المتن السردي متكامل في نظري. لا يمكن أن نبني دارا بدون أن تكون لها نوافذ، وعليه، فإنّ جميع العناصر ينبغي أن تتوافر في هذا المتن، من سياسة واجتماع واقتصاد وفنون وغيرها من الشؤون الأخرى التي لا بدّ منها في السرد الروائي. إنّنا نكتب رواية في المقام الأوّل، وليس بحثا اجتماعيا أو سياسيا. والرّواية في هذا النطاق تضمُّ زبدة المعرفة مثلما سبق أن قلت. أنا ضدّ هذه التصنيفات المرتجلة التي تُبعد هذا العنصر أو ذاك في العملية الروائية. القول بأنّ هذه الرّواية أو تلك سياسية أو اجتماعية يعني أنّنا استخدمنا لغة مُعينة تضم في طياتها كلمات وتعابير اجتماعية. في الرّواية سرد وشِعر وأنفاس ملحمية وتراكيب شعبية وفن تشكيلي ونحت ورقص ضمن رؤية فنية مهفهفة. أمّا أن نحصر هذا الفن في نطاق معين من التعبير فإنّنا نكون قد عدنا إلى الوراء، ذلك لأنّ الرّواية هي فن هذا العصر، وليس أدل على ذلك من أنّها صارت تنافس التعبير الشِّعري في جميع لغات الدنيا. في أمريكا على سبيل المثال هناك تزاوج جميل بين الفن الروائي والفن السينمائي حتى إنّ الكاتب الروائي صار يكتب الرّواية على طريقة التقطيع السينمائي بحكم أنّ العلاقة بينه وبين السينما صارت أمرا لا مناص منه. في أوربا، ما زال الروائيون يوظفون التعبير الشِّعري في جميع ما يكتبون. لغتهم قوية سلسة حتى وإن كانت مواضيعهم لا تنطوي على شيء جديد في معظم ما قرأته. وفي العالم العربي جهود معتبرة من أجل بروز لغة روائية تجمع بين الواقع والخيال وما يصدر من روايات في العالم أجمع. وموجز القول هو أنّ القطع بشأن الفن الروائي عندنا يعني إصدار حكم قاسٍ عليه، فنحن قوم يتطلعون إلى الحرية، إلى تنفس الأوكسجين، والرّواية هي هذه الحرية التي نبحث عنها مشرقا ومغربا. وأنا ضدّ المتكإ السياسي أو الاجتماعي في الكتابة الروائية. أنا مع هذا التوق الكبير إلى الحرية الإبداعية، والحرية الاجتماعية التي تحترم حدودها. لا أترجم نصّا لا أحبه ماذا عن الرّواية التاريخية في الجزائر، إلى أي حد ترى أنّها حققت مشروعها التاريخي والجمالي في ذات الوقت، ومن الروائي الّذي أبدع فيها أكثر؟ مرزاق بقطاش: الحديث عن الرّواية التاريخية في الجزائر هو من قبيل استباق الأحداث والأدب في نفس الوقت. في الجزائر اليوم رواية ناشئة على الرغم من أنّ عمرها يمتدّ إلى أكثر من ستين عاما. نحن في حاجة إلى الكم، إلى الكتابة ثمّ الكتابة، أمّا الفرز فإنّه سيجيء تلقائيا. هناك روائيون يهتمون بالموضوع التاريخي مثل واسيني الأعرج في روايته (كتاب الأمير)، وهناك من اهتم بتوظيف الرمز التاريخي مثل الطاهر وطار في (الحوّات والقصر)، وعبد الحميد بن هدوقة في روايته (الجازية والدراويش). وضعية الرّواية في الجزائر هي غير وضعية الشِّعر، بمعنى أنّنا نعمل على إرساء تقاليد روائية أولا وقبل كلّ شيء. قد أكون غير منصف في جوابي هذا، ولكن، ذلكم هو تصوري لموضوع الرّواية التاريخية عندنا. ثمّ إنّ هذا الشكل الفني لا يعيش طويلا. إنّه في الغرب أشبه بطفرات فنية سرعان ما تتفرقع مثلما حدث مع والتر سكوت وتشارلز ديكينز في إنجلترا، وجورجي زيدان عند العرب. والسؤال الّذي ينبغي أن يُطرح في هذا الشأن هو التالي: لِمَ، يا ترى، لا تعيش الرّواية التاريخية طويلا؟ بل، ولماذا تُغيّر جلدتها من عصر إلى عصر آخر؟ الكم في نظري، هو الّذي يحدّد الجواب، وذلكم ما ننتظره في الجزائر، أي بعد أن تقف الرّواية على قدميها وقفة راسخة ويكون لها أحفاد وأحفاد. هناك من يرى أنّ التاريخ بما فيه المسرود روائيا كُتب بمنظور ذكوري وأنّه من الضروري إعادة كتابته من منظور آخر غير ذكوري بالأساس؟ مرزاق بقطاش: التاريخ يظلّ تاريخا سواء أكان وراء كتابته ذكر أم أنثى. المهم هو طريقة المعالجة التاريخية، وطريقة المعالجة الفنيّة الروائية. بعد مرور قرنين من الزمان على الأخوات برونتي، نقرأ رواياتهن على أنّها تاريخ وفن في نفس الوقت، وكذلك الشأن بالنسبة للأمريكية ويلا كاثر ولرفيقتها بيرل باك. ونقرأ اليوم روايات إميل زولا على أنّها جانب من التاريخ على الرغم من واقعيتها الطبيعية، ونقرأ ثلاثية نجيب محفوظ بنفس المنظور، فهي تؤرخ لثورة 1919 في مصر وهكذا دواليك. لا أعتقد أنّ هناك فرقا بين ما تكتبه امرأة أو ما يكتبه رجل حتى وإن كانت المشاعر الرقيقة هي التي تتغلب لدى صاحبات الأظافر الطويلة كما يُقال. ثمّ إنّني لا أؤمن بحكاية إعادة كِتاب التاريخ، إذ أنّ التاريخ يُكتب مرّة ومرّة ومرات، وفي كلّ مرّة نكتشف شيئا جديدا. كِتابات سيمون دوبوفوار الروائية شيء جديد، بل إنّ فيه الكثير من الذكورة، وكذلك كتابات غادة السمان المشرقية، خاصة قصصها القصيرة. وأعود إلى ما قلته في كلّ مرّة: المهم هو الكتابة أولا وأخيرا. ومرحبا بما يكتبه الرجل، وبما تكتبه المرأة سواء أتناولت هذه الكتابة موضوعا تاريخيا موغلا في أعماق التاريخ، أم موضوعا واقعيا نلمس جوانبه حوالينا في كلّ يوم. أشعر بالسرور عند صدور رواية لكاتب جزائري برأيك هل الذكورة وصلت حتى إلى التاريخ ومارست عليه رغبتها القولية كيفما شاءت؟ مرزاق بقطاش: الذكورة مارست هذه الرغبة فعلا بحكم أنّها كانت المُسيطرة منذ أن وعى الإنسان الكتابة والتاريخ في آن واحد. لكنّها صارت اليوم في عداد الماضي، وليس أدل على ذلك من أنّنا صرنا نقرأ أدب كاتبات في جميع أصقاع العالم. هل كنتِ تتصورين، على سبيل المثال، أنّ المرأة الجزائرية قد تتحوّل إلى كاتبة روائية أو شاعرة قبل خمسين عاما من الزمن؟ كلّ شيء يتغير، والفعل الحقيقي هو الّذي يبقى سواء أأقدمت عليه امرأة أم كان وراءه رجل. ثمّ إنّ فكرة الذكورة هذه واردة علينا. فنحن في تاريخ الأدب العربي لدينا شاعرات حتى في العهد الجاهلي، أي قبل ألف وخمسمائة عام، ولدينا ناثرات وراويات حديث شريف ومحاربات وسياسيات وحاكمات إلى غير ذلك من ألوان النشاط الفكري والسياسي والاجتماعي. وعليه، فأنا لا أستسيغ الحديث كثيرا في هذا الموضوع لأنّني أراه مُقحما علينا، في حين أنّ الكتابة الأنثوية شيء طبيعي في تاريخنا كلّه. الرّواية الجزائرية مرت بعدّة تيارات بما فيها فترة التأسيس ومغامرة التجريب، بين التأسيس ومغامرة التجريب أين تجد هذه الرّواية التي لها فرادة التميّز والجمالية، وأيضا برأيك من أسس لها أكثر ومن غامر فيها؟ مرزاق بقطاش: أعتقد أنّنا ما زلنا في طور التأسيس على الرغم من التميّز الّذي يطبع أدبنا الروائي بالمقارنة مع ما يصدر من روايات في مشرق العالم العربي. ميزة الرّواية الجزائرية تتمثل في جرأتها، في حجم الحرية الّذي تتمتع به لأنّها انتزعته انتزاعا. هل هناك في العالم العربي من يعالج موضوع الدكتاتورية اللّهم إلاّ الروائي الجزائري؟ هل هناك من يتنفس أوكسجين الحرية ويجابه السلطة إذا جمحت وأرادت أن تركب رأسها اللّهم سوى هذا الكاتب الجزائري؟ أحسب أنّ التميّز قائم في هذا المجال بالذات. ومع ذلك، فإنّ خمسين أو ستين عاما من الإنجاز الروائي هي فترة غير كافية لكي نحسم أمورنا بخصوص التأسيس. شخصيا، كتبت رواية (عزوز الكابران) وعالجت فيها مسألة الديكتاتورية. وكتب الطاهر وطار (اللاز) و(الزلزال) لكي يعالج قضية الانتماء الإيديولوجي خلال الثورة الجزائرية، وكتب الأعرج واسيني رواية (الأمير) لكي يُسقِط موضوعا تاريخيا على الواقع السياسي والاجتماعي الّذي نعيشه في أيّامنا هذه، وكتب الزميل جيلالي خلاص رواية (رائحة الكلب) لكي يصور جانبا نفسيا لدى الإنسان الجزائري، وهذه مواضيع على الرغم من تميزها إلاّ أنّها تندرج ضمن خانة التأسيس الّذي بدأت معالمه تتضح، ولكن ليس بالقدر الكافي. أنا أمقت أولئك الذين يزعمون كاذبين أنّ الرّواية العربية ولدت عام 1912 برواية (زينب). ولا أحب أولئك الذين يدعون أنّ الرّواية الجزائرية ولدت على يدي فلان أو فلتان. الأدب لا يولد دفعة واحدة، بل هو في حاجة إلى اختمار وتخمر وطول إعداد. الأدب ليس قدرا نلقي في داخلها بالتوابل واللحم والزيت وغيرها من المواد الأخرى، ثمّ نغلقها لفترة نصف ساعة لكي نعيد فتحها ونلتهم ما فيها. الرّواية، حسب فهمي وقراءاتي في الأدب العالمي، شكل أدبي يضم جميع الأشكال الأدبية الأخرى. ولذلك فإنّ الحديث عن التأسيس وغير التأسيس سابق لأوانه. ماذا عن المشهد الروائي عندنا، كيف تجده، كيف تراه وتٌقيمه؟ مرزاق بقطاش : سؤال واسع جدا، ولكن يمكنّني أن أوجز الإجابة بقولي: أشعر بالسرور الغامر كلّما صدرت رواية لأديب جزائري. أمّا عن التقويم، فأنا لست ناقدا، بل أنا أكره النقد لأنّه لا يفيدني في شيء، وذلك لأنّ الإبداع الأدبي حالة نفسية في المقام الأوّل. أكون في حالة نفسية في أثناء الكتابة، وبعد الفراغ منها، أدخل طورا نفسيا آخر، ولذلك فأنا لا أشعر بضرورة النقد الأدبي، على الأقل فيما يعنيني أنا. ولا أريد في هذا الشأن أن أصدر حكما على الآخرين، فأنا قارئ تأثري إن صح التعبير، بمعنى أنّني أقرأ وأستحسن ما أقرأ، كما أنّني قد أمج ما أقرأه. المسألة عندي ذوقية أولا وأخيرا. ما كتب عن الأزمة في الجزائر من روايات أقرب إلى الصحافة منها إلى الأدب لك كتاب بعنوان «الكتابة قفزة في الظلام» وهو عبارة عن مقالات مُترجمة، العنوان ذكرني بكتاب «طقوس في الظلام» لكولن ويسلون، هل حقا الكتابة قفز في الظلام؟ ومتى تكون هكذا؟ وهل القفز في الظلام هو من بعض طقوس الكاتب؟ مرزاق بقطاش: والكتابة قفزة في الظلام فعلا، ولكن، ليس بمعنى العتمة، وإنّما بمعنى ما هو مجهول. الكاتب الحقيقي يلقي بنفسه في البحر ليتعلم السباحة وليكتشف جزرا وقارات جديدة، ذلكم هو المعنى الّذي قصده الكاتب الزنجي الأمريكي جيمس بالدوين الّذي ترجمتُ عنه هذا العنوان. ولا أعتقد أنّ هناك شبها بين هذا العنوان وبين العنوان الّذي وضعه الكاتب البريطاني كولن ويلسون الّذي كان مُغرما بالكتابة عن الطقوس العجيبة، وله كتاب شهير في هذا الشأن أسماه (غرائب). وهل الكتابة إلاّ البحث عما هو جديد في الذات وفي المحيط الحياتي الّذي نعيش فيه؟ الرّواية والأزمة. هل واكبت الرّواية أزمة ومحنة الجزائر خلال العشرية السوداء كما يجب، هل استثمرت فيها إبداعيا أم فقط تناولتها من سياقها التوثيقي بعيدا عن الجمالي والفني؟ مرزاق بقطاش: السؤال الّذي ينبغي أن يُطرح في هذا الشأن هو موضوع الثورة التحريرية، وهل وجدت من يُعالجها روائيا؟ أنا مهووس بهذا الموضوع لأنّه يمثل شهادة ميلادي في الزمن الحديث. أمّا الأزمة التي عصفت بالجزائر في بحر السنوات الماضية، فأنا لا أجد لها صدى كبيرا في ما كُتب من روايات، بل إنّ هذه الكتابة، في معظم الأحيان، عبارة عن حكايات لم ترقَ إلى مستوى موضوع الأزمة. الرّواية، كما تعرفين، تنضج على نار هادئة، ذلك ما تعلمته من الأدب الروائي العالمي. أمّا أن يتحدّث أحدهم عن القلق الّذي ينتابه وهو يخرج صباحا من داره ويسمع حركة السلالم أو مواء قط، ويُخيّل إليه أنّ إرهابيا يُوشك أن ينال من حياته، فإنّ ذلك من قَبِيل العمل الصحفي، مع احترامي الشديد للعمل الصحفي، لأنّني صحفي في المقام الأوّل. وعليه، لا يمكنّني أن أجزم بأنّنا أنجزنا رواية تُصور ما عانيناه بطريقة فنية كبيرة. ميزة الرّواية الجزائرية تتمثل في جرأتها يقول الروائي السعودي يوسف المحيميد: «الرّواية لا تُعنى بالأغلبية كما هو شأن الدراسات الاجتماعية، وإنّما هي فن يُولي الأقليات وحالات التورط الإنساني الاهتمام الأكبر». أنت كيف ترى وظيفة الرّواية، وبماذا تُعنى أكثر وهل للرّواية من وظيفة واضحة؟ مرزاق بقطاش: قد يكون هذا التحديد صحيحا في جانب ما، وذلك لأنّ الفن ينطلق من الخاص إلى العام، أي إنّه يُعنى بالمسائل الذاتية في المقام الأوّل، وقد يجيء القارئ بعد ذلك ويُولي اهتمامه لهذه المسائل الذاتية لكي تنتشر بعدها في وجدان كلّ قارئ. الروائي الّذي يكتب بغاية الانتشار وسط قاعدة واسعة من القراء قد لا يأتي بشيء جديد. أنا لا أتصوّر أنّ تولستوي على سبيل المثال لا الحصر، وضع في الحسبان قاعدة كبيرة من القراء حين كتب رواية (الحرب والسلام) أو (آنا كارنينا) وغيرها من الروايات الأخرى. لقد صاغ فنًا، وكان صادقا في صياغته تلك، ولذلك انتقلت رواياته بين القراء في روسيا القيصرية أولا ثمّ في العالم أجمع. الموضوع الّذي يُعالجه الروائي والفن الّذي يأخذ به هما الأساس في الإبداع، والطريق التي توصل إلى الجماهير الواسعة من القراء. الجوع، الموت، الحرب، الحبّ وغيرها من المواضيع الأخرى هي التي بلغت القراء في مختلف الأصقاع، والتقنيات التي استخدمها الروائيون هي التي مكنتهم من الانتشار، وهي في غالبية الأحيان تقنيات متكرّرة من رواية لأخرى. أمّا بخصوص وظيفة الرّواية فإنّها في رأيي تتمثل في الصدق مع الآخرين. الرّواية لا تنتشر إن هي لم تكن صادقة. قد تنام رواية من الروايات في رفوف هذه المكتبة أو تلك، لكن حقيقة الفن هي التي تخرجها من سباتها. وما أكثر الروايات التي نامت زمنا طويلا ثم احتلت الصدارة. ولهذا السبب أيضا سقطت جميع الروايات التهريجية والدعائية باستثناء القليل القليل جدا منها، مثل رواية (والفولاذ سقيناه) لنيكولا أستروفسكي التي عالج فيها مشكلة الشباب خلال الثورة البلشفية في روسيا، أو رواية (العقب الحديدية) لجاك لندن. أستسخف طغيان الجنس في الرواية هل الكتابة تستحق منك كلّ هذا العناء، رغم أنّها كادت أن تودي بحياتك ذات يوم إثر تعرضك لعملية اغتيال؟ مرزاق بقطاش: الكتابة مسألة دينية في نظري. أنا أكتب لأنّني مؤمن بالله، ولأنّني أؤدي جزءا من العبادة في أثناء العملية الإبداعية. ثم إنّني مسؤول عن كلّ كلمة يخطها قلمي: (وهدوا إلى الطيب من القول وهدوا إلى صراط الحميد) صدق الله العظيم. ما علاقة بقطاش الأديب الكاتب بالسياسة والسياسي؟ مرزاق بقطاش: علاقة واهية جدا، بل إنّني لا أنظر إليها إلاّ لِمامًا لاسيما وأنّني أمضيتُ عمري كلّه في الصحافة، وعرفت الكثير من السياسيين عن قرب.