العودة من - منفى اللغة - بعد 60 سنة من الاستقلال اعتُمدت اللغة العربية بداية من هذه السنة، في مراسلات و وثائق العديد من المؤسسات والهيئات الرسمية في الجزائر بما في ذلك وزارات الثقافة و الشباب والرياضة والتكوين والتعليم المهنيين، وهي خطوة مهمة تعكس تحولا عميقا في سياسة الاتصال ودليل على النقلة التي تحققت في إطار مخطط التعريب، وهو واحد من بين التحديات القديمة الحديثة المرتبطة بمشروع الاستقلال الثقافي واسترجاع الشخصية الوطنية التي حاول الاستعمار طمسها بالأمس، ولا تزال معركة الدفاع عنها مستمرة بعد ستين سنة من الاستقلال، في ظل محاولات استهداف الهوية والسطو الثقافي، في زمن تحولت معه التكنولوجيا إلى سلاح يتطلب التصدي له منظومة ثقافية وتعليمية قائمة على الرقمنة، كما ترفع البلاد اليوم تحديا آخر، هو تعليم الأمازيغية والانفتاح على الإنجليزية لغة العلم. تقرير: نور الهدى طابي يعتبر الاستقلال الثقافي والدفاع عن معالم الهوية الوطنية، من أهم الأهداف التي قامت من أجلها الثورة المجيدة الجامعة لكل نضالات الجزائريين منذ قيام دولة الأمير عبد القادر ومن ثم ظهور الوطنية الجزائرية الحديثة في عشرينيات القرن الماضي مرورا بمؤتمر الصومام وبيان أول نوفمبر، إلى غاية الاستقلال وبداية مشروع بناء الدولة وتعريب المدرسة الجزائرية، وهو مسعى لعبت خلاله جمعية العلماء المسلمين دورا هاما في توظيف اللغة الأم والاعتماد على العقيدة الإسلامية لحماية الشخصية الوطنية من الذوبان في المجتمع الاستيطاني، كما كان للمثقفين الجزائريين أيضا دور في توضيح المقاربة الإيديولوجية بين اللغة و الهوية وهو ما تحدث عنه مالك حداد حين قال «اللغة الفرنسية منفاي»، معبرا عن هويته الممزقة. جمعية العلماء من الكتاتيب إلى الرقمنة ويوضح رئيس جمعية العلماء المسلمين عبد الرزاق قسوم للنصر بهذا الخصوص، بأن الاستعمار اعتمد بالأمس، على خطاب طمس الهوية لإلغاء تاريخ الجزائر وتفكيك المجتمع، وقد تصدى لهذه المحاولات العلماء الجزائريون على اختلاف قناعاتهم بمختلف الوسائل، بالكتاتيب القرآنية وبالخطاب المسجدي المحدود، وبإيفاد الأبناء إلى مؤسسات الدول الشقيقة. وبعدما أخذ الخطاب الاستعماري طابعا استئصاليا خلال الاحتفال الاستفزازي بمرور مئة سنة على احتلال الجزائر، نادت الجمعية إلى رد فعل شمولي، وقد قام رد الفعل العُلمائي الإصلاحي الجزائري، على أسس أصبحت تعرف اليوم بالثوابت الوطنية في كون الإسلام ديننا، والعربية لغتنا والجزائر وطننا. وبذلك بدأت العملية المنظمة لمقاومة طمس الهوية المتضمنة في المشروع الاستعماري، وأخذت طابعا ممنهجا وعلميا، وتحت ضمان شعبي، حيث اتسم مشروع جمعية العلماء بالشمولية في التكفل بكل فئات الشعب الجزائري وبناء المدارس للتكفل بالناشئة والتعليم الحر الملتزم بقضايا الوطن، وزرع خطاب إسلامي تجديدي في المساجد، إلى جانب العناية بالتنظيمات الشبابية الرياضية والمسرحية والفنية يبرز قسوم. وبالرغم من كل ما تحقق على الصعيد التربوي والثقافي والإعلامي والاجتماعي طيلة ستين سنة من الاستقلال، فإننا لا نملك حسب قسوم، إلا أن نعترف بأن التحدي لا يزال قائما لتعزيز الاستقلال الثقافي، كما أن الدعوة ملحة كما قال، إلى اصطفاف كل الوطنيين الواعين للمساهمة في القضاء على بقايا الغزو الثقافي في منظومتنا التربوية والثقافية و التكيف مع مستجدات الواقع المحلي والعالمي، وإن من التحديات الآنية حسبه، التعامل مع العولمة من منطلق تحصين الذات بتقوية وعيها وتعزيز منسوبها الثقافي والوطني كي لا يجد الأعداء منفذا للتسلل إلى هياكلنا، ولن يتم ذلك إلا بالتحكم في الرقمنة العلمية المتأصلة. قرارات سيادية وتأتي قرارات سيادية كالتي اتخذتها وزارات الثقافة و التعليم و التكوين المهنيين والشباب والرياضة وبعض الجامعات بتعميم استخدام اللغة العربية، لتكريس مبادئ أول نوفمبر وعملا بما يقره الدستور، وكانت وزارة التكوين المهني قد نشرت على صفحتها الرسمية على فيسبوك نص بيان جاء فيه «بأن قرارها يعد تكريسا للمبادئ العامة التي تحكم المجتمع الجزائري، مثلما هو منصوص عليه في الباب الأول من الدستور لاسيما المادة الثالثة منه التي تؤكد على أن اللغة العربية هي اللغة الوطنية والرسمية للدولة» . وبقرار مماثل أصدرت وزارة الشباب و الرياضة تعليمات تنص على «استعمال اللغة العربية في كل المراسلات الداخلية للوزارة ابتداء من الفاتح من نوفمبر القادم»، محذرة من أي تهاون أو تقصير في تطبيق القرار، كما أصدرت وزارة الثقافة مذكرة لمختلف مصالحها تدعو فيها إلى ضرورة تعميم استخدام اللغة العربية في المراسلات والتعاملات والنشاطات الرسمية في كافة الدوائر والمصالح ومنع التعامل باللغة الفرنسية. وجاء في مراسلة وجهتها الوزارة للمصالح التابعة لها، نشرت نسخة منها على صفحة الفيسبوك، ما يلي «تطبيقا لأحكام الدستور وقانون تعميم استعمال اللغة العربية يطلب منكم التقيد إلزاما باستعمال اللغة العربية في كل أعمال الاتصال والتسيير الإداري و المالي و التقني»، وأضافت المراسلة، أن كل المناقشات والمداولات في الاجتماعات الرسمية والملتقيات والندوات والتظاهرات لابد أن تكون باللغة العربية باستثناء المراسلات الدولية التي يمكن فيها استعمال اللغات الأجنبية إلى جانب العربية. هذا الانعتاق من شرنقة اللغة الفرنسية، تكلل أيضا بقرار وزارة الصحة والسكان باستبدال اللافتات داخل العديد من المستشفيات واستعمال اللغتين العربية الإنجليزية فيها. من جهة ثانية، بات استخدام اللغة الأمازيغية حاضرا جدا في كل اللافتات عبر غالبية المؤسسات، وهو تكريس للبعد اللغوي الثاني للدولة والذي يقره الدستور، و رغم محاولات للعب على وتر الحساسيات وضرب استقرار الوطن، إلا أن الجزائر عززت منظومتها التعليمة والثقافية لمواجهة الأمر، عبر العمل على تعليم اللغة في المؤسسات التربوية. كما أقرت الدولة بداية من هذه السنة أيضا، تدريس الانجليزية في السنة الثالثة من الطور الابتدائي والانفتاح لغويا بشكل أوسع. هاشتاغ اللغة العربية يتصدر منصة تويتر وشهدت منصة تويتر تفاعلا كبيرا مع القرارات، حيث تصدّر هاشتاغ «تعميم استعمال اللغة العربية»، «الترند» الجزائري، وجاءت عبارة اللغة العربية من بين أكثر العبارات تداولا وتغريدا، وأشيد بالقرارات الوزارية، حيث اعتبر البعض بأنها دليل على صحوة ثقافية حقيقة وتوجه سيادي لفرض معالم الشخصية الوطنية في كل المجالات وعبر كافة القطاعات، داعين إلى توسيع دائرة تطبيق القرار لتشمل جميع المؤسسات الحكومية. وقد دعا مغردون إلى استكمال المسار، واستخدام اللغة العربية عبر كافة المواقع الالكترونية التابعة للجامعات والمؤسسات الاستشفائية والاقتصادية والتجارية وجميع الهياكل التابعة للدولة. مكانة للغة في قانون الإجراءات المدنية وتنعكس خطوات تكريس استخدام اللغة الوطنية كذلك، من خلال إقرار تعميم استخدامها في قانون الإجراءات المدنية لسنة 2008، وهنا يبين الدكتور محمد بومدين، من كلية الحقوق و العلوم السياسية بجامعة أدرار، في دراسة له أعدها سنة 2014، ونُشرت في مجلة الباحث، أن نص المادة 8 من قانون الإجراءات المدنية والإدارية الصادر سنة 2008 يعد خطوة جادة وحقيقية، فرغم النص في الدساتير الجزائرية المتعاقبة على اللغة العربية كلغة رسمية، ورغم صدور قانون 91 - 05 المتضمن تعميم استعمال اللغة العربية، فإن المادة 8 بعد ما يقارب الخمسين سنة على الاستقلال، جسدت السيادة الوطنية في مدلولها اللغوي الرسمي بشكل قاطع وشامل في المرفق القضائي. والجديد الذي جاء به هذا النص، هو أنه لم يكتف بإلزام استعمال اللغة العربية في جميع مراحل التقاضي فحسب، بل نص على عدم قبول الوثائق والمستندات بغيرها أو أن تكون الملفات مصحوبة بترجمة إلى هذه اللغة، وعليه فإن المادة تؤسس لمرحلة من مراحل تجسيد السيادة الوطنية بتأكيده على إلزامية استعمال اللغة العربية في كل ما يتعلق بالقضاء. ورغم أن النص جاء متأخرا بما يقارب نصف قرن من الاستقلال كما عبّر الباحث، إلا أنه يعد خطوة أساسية لتحقيق السيادة الوطنية متمثلة في بعدها اللغوي الرسمي، أما ما ترتب عن هذا النص من معوقات كتأخر البت في بعض القضايا أو إثقال كاهل المواطن بأعباء الترجمة لبعض المستندات والوثائق التي ما زالت تصدر باللغة الفرنسية من قبل بعض المؤسسات والإدارات الجزائرية، فيمكن، بحسبه، التغلب عليه ببعض الإجراءات البسيطة الإضافية كتوفير مكاتب للترجمة الرسمية في قطاع العدالة. ن.ط رئيس المجلس الأعلى للغة العربية صالح بلعيد بشأن تعميم العربية مخاض صعب سيعيد تشكيل الوعي اللغوي والثقافي اعتبر رئيس المجلس الأعلى للغة العربية صالح بلعيد، بأن التوجه نحو تعميم استعمال اللغة العربية في الجزائر مخاض صعب، لكنه سوف يعيد تشكيل الوعي اللغوي والثقافي في بلادنا، وقال بأننا اليوم وبعد ستين سنة من الاستقلال حققنا خطوة جبارة في طريق إنجاح مشروع التعريب وتعميم التدريس باللغة العربية وحتى استخدامها في العديد من مؤسسات الدولة وبخاصة من لها علاقة بالحكامة اللغوية أو التربوية. نور الهدى طابي ويمكن القول كما عبّر الدكتور بلعيد للنصر ، بأن ما حققته الدولة الجزائرية منذ 1962 إلى الآن مهم جدا، حيث مرت عملية التعريب بمراحل، فأول تعريب كان بعد الاستقلال مباشرة في السنة الأولى من التعليم القاعدي أو الابتدائي، بعدها تم تعريب السنة الثانية في 1969، وفي السنة الموالية عربت السنوات الثالثة و الرابعة. ومع مطلع سنة 1971، تحققت عملية تعريب السنوات القاعدية بشكل كلي، وفي الخمس سنوات اللاحقة بدأ يظهر التعريب على مستوى الجامعات، حيث كان قسم الحقوق أول قسم عرب حينها، تلاه الأدب العربي و من ثم بعض التخصصات في العلوم الإنسانية. وحتى سنة 1976، كان أكبر إنجاز في مسعى التعريب هو نجاح المدرسة الأساسية، وقد أعقبتها بعض الإصلاحات ذات العلاقة بالمناهج، وفي تسعينيات القرن الماضي إلى غاية تأسيس المجلس الأعلى للتربية سنة 1997، أعدت أرضية معرفية جادة لتعميم استخدام العربية وهو ما تحقق مع نهاية الألفية الأولى. وتميزت بداية الألفية الثانية حسب بلعيد، بتعميم واضح لاستخدام العربية في كل المواد، ثم جاءت إصلاحات 2003، التي عملت إلى حد ما على تضييق مدى استخدام اللغة، وقد حدثت هناك مفاجآت كثيرة في هذه المرحلة، ترتب عنها تعطيل بعض المشاريع، كما تعطلت فعاليات بعض المؤسسات التي أصبحت استشارية. عهدة 54 والتأسيس لمنظومة ثقافية جديدة وحسب رئيس المجلس الأعلى للغة العربية، فإن هذا الواقع عرف تغيرا جذريا منذ سنة 2019 وإلى غاية الآن، حيث نشهد نهضة علمية جديدة في ظل جزائر جديدة تعمل على الدفع باللغة العربية دفعا قويا، إذ بدأت هذه اللغة تنال موقعها وبخاصة مع الاصلاحات اللغوية المعروفة والتعهدات ال54 لرئيس الجمهورية السيد عبد المجيد تبون، والتي تضم 11 تعهدا يتعلق تقريبا بالمنظومة الثقافية والمنظومة التربوية والمنظومة اللغوية وما له علاقة بالتراث والأصالة والإرث اللغوي ومعالم الهوية والشخصية الوطنية عموما، حيث نشهد كما قال، نهضة لغوية حقيقية تكللت بقرار سيادي و وطني كان ولا يزال ضروريا، وهو إدراج اللغة الإنجليزية في السنة الثالثة ابتدائي، وهو مشروع أجهض فيما مضى من سنوات. بلعيد قال، بأن كل الأطراف مجندة لنجاح المشروع اللغوي والثقافي والعلمي، علما أن الأمر لا يتعلق باستبدال لغة بأخرى، بل هو تفتح على لغة العلوم والتجارة والشبكة. هي كلها خطوات مهمة قياسا بعمر الاستقلال كما أضاف، إذ يمكن القول حسبه، بأننا هيأنا الأرضية لتطوير اللغة العربية، ونرفع تحديا ثانيا هو التهيئة للغة الأمازيغية، وهذا كله يدخل في صالح منجزات الدولة الجزائرية من دولة الاستقلال إلى العهد الجديد. ومن هذا المنطق، يمكن القول نقلا عن بلعيد، بأن الاستقلال الثقافي محقق حتى وإن كانت اللغة الفرنسية لا تزال مرتبطة بالبعد الاقتصادي، لأن اللغة ينظر إليها انطلاقا مما تقدمه لنا كقيمة مضافة، لذلك وجب الإدراك بأن استخدامها في مجتمعنا مكرس بفعل عامل الاستعمال وبحكم الجالية الجزائرية والانجذاب اللغوي واحتكار نوافذ العلم، ولكن الآن بعدما ظهرت الإنجليزية فإنه بإمكاننا في رأيه، الانطلاق بشكل أفضل لتكريس وتعزيز استقلالنا الثقافي، خاصة أننا ننشد كل ما له علاقة بالعلم، مع الحفاظ على الخصوصيات الوطنية ولغة الهوية، والعمل على تطويرها لتتماشى مع معطيات العصر، فضلا عن ترقية الأمازيغية، لأنها من التراث الذي يعد عاملا من عوامل التكامل مع اللغة الجامعة، قائلا بأن العمل يتم وفق وصفة عملية مدروسة على المديين المتوسط والبعيد ولكن بنتائج مضمونة. الانسجام الاجتماعي مرآة عاكسة لنجاح المشروع بلعيد قال بأننا ننعم اليوم بانسجام اجتماعي لغوي يظهر من خلال استعمال اللغة العربية، وقبول واستعمال اللغة الأمازيغية، بشكل طبيعي جدا، فضلا عن الخروج من قوقعة الفرنسية وهو أهم مكسب، حيث أن عملية تعميم استعمال العربية أخذت منحى إيجابيا في الإدارة والإعلام، وتدريس تخصصات العلوم الإنسانية، رغم وجود بعض التحديات في ما يتعلق بمسألة تدريس العلوم في الجامعات بحسبه، وهنا لا يزال المشروع متأرجحا رغم البوادر المشجعة التي ظهرت مع إنشاء مدرسة الرياضيات مثلا واعتماد اللغة الإنجليزية فيها بمعنى أن هناك خطوات محققة حتى وإن لم تكن كاملة بنسبة مطلقة، ولكنها نقلة نوعية ستتضح نتائجها تدريجيا على المدى المتوسط. الرقمنة للتكيف مع متطلبات العصر وفي ما يتعلق بالتكيف مع التكنولوجيات الحديثة دون أن تلغي العولمة الخصوصيات المجتمعية والثقافية والهوياتية، يؤكد الدكتور صالح بلعيد، بأن الجزائر تدرك التحديات الراهنة وقد أدرجت اللغة العربية في عملية الحوسبة بأريحية، من خلال توفير منصات ومواقع مختلفة بينها مواقع رسمية باللغة العربية، فضلا عن رقمنة المواقع الإدارية بصفة عامة بما في ذلك نظام الحالة المدنية، كما أن الرقمنة بالعربية تشمل منتجات بعض المؤسسات على غرار المجلس الأعلى للغة العربية، وذلك وفق نظامي «وورد» و «بي دي أف»، ما يعني بأن المرحلة الأولى تمت بنسبة تتجاوز 80 في المائة. أما المرحلة القادمة، فمعقدة لكن العمل جار للتماهي مع البرمجيات الذكية التي تنتجها اللغات الأجنبية ومحاولة تكييفها كما قال، مع خصوصيات اللغة العربية التي تعيش رهانات وتحديات و مخاضا حقيقيا، يستوجب العمل الجاد وفهم اللغة التي تتم منها الترجمة، وهو ما كان محور بحث خلال أسبوع الترجمة والمنصات الذي احتضنته مدينة وهران شهر سبتمبر الماضي، أين تم عرض منصات الترجمة الآنية وتطبيقات الكتابة عن طريق الصوت، وكلها أمور يجتهد باحثون جزائريون في الاستثمار فيها في إطار التعددية اللغوية التي تعكس الوعي اللغوي الذي بتنا نتمتع به. ن.ط