ليس مجرد امتناع عن الطعام والشراب كيف تحارب المعصية بالصيام؟ ليس أدل على الحكمة من الصيام من قول النبي صلى الله عليه وسلم فيما روي عن أبي هريرة: من لم يدع قول الزور والعمل به فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه . فالصيام ليس مجرد امتناع عن الطعام والشراب ولكن هو إعلان المسلم عن امتناعه عن الحرام والاستسلام الكامل لله تعالى. فالمعاصي والآثام التي يرتكبها المسلم في نهار صيامه لاتبطل الصيام ولكنها تخدشه وتفسد معناه فمن لوث صيامه بالمعاصي في سمعه وبصره ولسانه وبقية جوارحه أضاع نفسه بفوات الأجر والمغفرة الموعودة ...والحق ان هذه خسارة عظيمة لمن يعقلون ...لا يستهين بها إلا أحمق يعرض نفسه للجوع والعطش ويحرم نفسه شهواتها ...ثم يخرج في النهاية صفر اليدين من الأجر والثواب والحسنات. وذهب بعض السلف إلى أن معصية اللسان – مثل الغيبة- ومعصية الأذن – مثل استماع الغيبة – و معصية العين – مثل النظرة المحرمة- ومعصية اليد والرجل... كل ذلك من مفسدات الصيام والجمهور على أنه لا يفطر شيء من ذلك غير أن الجميع متفق على أن المعاصي تذهب بثواب الصيام. ولهذا فقد حذر النبي صلى الله عليه وسلم من أثر المعصية على قدسية هذه العبادة وتحصيل الثواب منها فإنه وإن كانت المعصية لا تبطل الصيام ولكنها في نفس الوقت تفسده وتنقص الأجر فيه. ولأن المقصد من الصيام مقصد سامي لا ينال أجره كل من قال أنا صائم فقد جعل الإمام الغزالي رحمة الله تعالى الصيام على ثلاث مراتب: المرتبة الأولى: مرتبة صيام العموم... وهو كف البطن والفرج عن شهوته فقط...وهو صيام مقدور عليه عند عموم الناس ولكنه لم يحقق مقصود الله تعالى من الصيام . والأحاديث النبوية على هذا كثيرة منها قال صلى الله عليه وسلم(رب صائم ليس له من صيامه إلا الجوع...) ويخشى على اصحاب هذه المرتبة فوات الأجر فلا يحصل من صيامه الا الجوع والعطش. المرتبة الثانية: مرتبة صيام الخصوص... وهو صيام الجوارح عن المعاصي بالإضافة إلى كف البطن والفرج عن شهوتهما ...فبكف بصره من النظر إلى ما حرم الله تعالى ...ويحفظ سمعه من الإصغاء الى كل ما يلوثها من الحرام...ويعف لسانه فلا يرفث ولا يلغو ولا يصخب ولا يجهل ...ويحرص ألا يمد يده إلى حرام او مكروه..ولا يسير بقدميه الى منكر او حرام. فيتخذ من صيامه درعا واقيا يحصنه من المعاصي والأثام ثم من عذاب الله تعالى ولهذا قال السلف الصالح: إن الصيام المقبول ما صامت فيه الجوارح عن المعاصي والأثام. وقد ورد عن رب العزة فيما جاء على لسان النبي صلى الله عليه وسلم:(كل عمل ابن ادم له الا الصيام فإنه لي وأنا اجزي به والصيام جنة فاذا كان صوم أحدكم فلا يرفث ولا يصخب فإن سابه أحد أو قاتله فليقل إني صائم). المرتبة الثالثة: مرتبة صيام خصوص الخصوص....وهو صيام القلب عن الأمور الدنيوية فلا يخطر في قلبه الا الله ..فهو اقبال بكامل الهمة على الله وانصراف عمن سواه ...فليس في قلبه وعقله الا الله ومثل هذا الصائم ليس عيده اول يوم في شوال وانما عيده يوم يلقى ربه ويفرح برؤيته.