إيزابيل إبرهارت كانت تحظى بحب الجزائريين البسطاء رغم اختلافها عنهم صدر، حديثا، كتاب للدكتور سبتي معلم يتناول فيه حياة الكاتبة الرحالة إيزابيل إبرهارت. وحسب المؤلف، يعتبر هذا الكتاب أول عمل باللغة العربية يتحدث عن إبنة جنيف. كراس الثقافة التقى بالكاتب وحاوره حول موضوع الكتاب. حاوره:نور الدين برقادي يحمل الكاتب شهادة الدكتوراه في مناجمنت الاتصال، يكتب باللغتين العربية والفرنسية، مؤسس ومدير يومية الوئام ( المتوقفة عن الصدور) ، يعمل حاليا مناجيرا عاما لمؤسسة خاصة. كانت الجزائر مقصد عديد الكتاب والفنانين من الشرق والغرب خاصة خلال القرنين 19 و20، مثل الفيلسوف كارل ماركس، الرسام إيتيان دينيه، الكاتبة إيزابيل إبرهارت، الباحثة الأنثروبولوجية جيرمان تيون..، فيم تتمثل العوالم السحرية التي جذبت هؤلاء لزيارة الجزائر ؟ أولا أنا جد سعيد بهذا اللقاء، وأشكركم على هذه الالتفاتة. قال الأمير الألماني موسكاو عندما زار الجزائر سنة 1835، وهو يصف مدينة عنابة في رسالة بعث بها إلى أصدقائه:»لقد شاهدت اليوم أربعة صفوف من الجبال المتصاعدة بعضها فوق بعض، وخيم البدو المنتشرة في السهل، وأضرحة المرابطين البيضاء..وكل هذه تشكل عندما تصطع عليها شمس إفريقيا العظيمة الملامح الأساسية للمناظر الإفريقية الخلابة، شاهدت أنواعا من الأزهار الملونة على اختلاف أشكالها، حتى أن جمالها تجاوز الأثر الذي تحدثه في النفس أجمل حدائق إنجلترا...»، ولنا في هذا أكثر من دليل، أقول أن الجزائر بلد جذاب، يدعو للتأمل، ويزرع الأمل، ويرسم للزائر لوحة إنسانية وثقافية خاصة تفتخر وتحتفي بها. تروي في كتابك حياة الكاتبة السويسرية إيزابيل إبرهارت، كيف تنظر إلى كتابة السيّر في الجزائر ؟ تفتقد الجزائر أو تفتقر – كباقي البلدان العربية- إلى كتابة السير، وذلك راجع إلى ما يتطلبه هذا النوع من الكتابة من صراحة مطلقة قد تكون في بعض الأحيان نقمة على صاحبها، حيث أن خصومه قد يضخمونها، ويجعلوها حديث مجالسهم، وهذا ما يكلف صاحبها ثمنا غاليا جدا، من جهة، ومن جهة أخرى، هذا النوع من الكتابة يتطلب أبحاثا ووثائق أصيلة وأصلية، الشيء الذي نفتقر إليه كثيرا، زد على ذلك أن شخصيات كهذه تعيش في هذه البلدان في بيئة ملوثة نوعا ما سياسيا واجتماعيا، لذا أرى أن السير عند العرب عامة، اقتصرت على الأبطال في الماضي، وهي حاليا عبارة عن مذكرات يروي فيها صاحبها أو من يكتب له، بطولات وهمية وجماليات فيها كثير من الخلط والغلط، هذا ما ينشر حاليا، ويروج له كثيرا، شيء نكتشف أن لا علاقة له إطلاقا بأدب السيرة لا سيما عندما نقرأ سيرا مثل اعترافات أوغستان أو روسو أو ساجان، إلى آخره. جاء العنوان الثاني للكتاب كمايلي: «جوانب خفية من حياة الفارسة المنسية»، ماهي الجوانب التي وردت في الكتاب ولم تكن معروفة ؟ أترك الإجابة عن هذا السؤال للقارئ الكريم، حتى يتمكن من قراءة الكتاب بكل عفوية، وإلا... ما الذي أعجبك في مسار من لقبتها باللغز الدائم ؟ إنها تمثل كل ما يوجد في امرأة متكاملة والتي نتحدث عنها كثيرا لكن قليلا ما نصادفها..فهي المنتمية إلى الواقع المعيش (الجزائر)، وتشعر بآلامه وتراقب أحداثه، بل هي من تعيش في قلب هذه الأحداث..فهي الصبورة التي تحملت كل الضغوطات والمآسي والهموم، وعرفت كيف تتعامل معها بذكاء، هي عفوية جدا، لا تتصنع، حنونة، ضحت بكل شيئ، وأعطت كل شيء من دون حسابات ولا شروط في المقابل، ولا حتى مصالح متبادلة، هي أيضا شجاعة وقوية، مغامرة ومسافرة، مثقفة وكاتبة. لست أتحدث عنها هنا بشكل مباشر، ولكني أسأل كل من خطر بباله هذا السؤال أن يحس بأهمية مثل هذه المرأة في أي مجتمع، لأن وجودنا فوق هذه الأرض ليس فقط من أجل الأكل والشرب والتعبد والإنجاب، وجمع المال. قلت في مدخل الكتاب مايلي: «..هي وبدون منازع من الشخصيات النسائية العالمية التي كان لها أثر وثقل كبير، وصدى مؤثر في جميع أنحاء العالم .. «، ماذا يميز هذه الكاتبة عن غيرها من الشخصيات النسائية العالمية ؟ نضالها من أجل قضية عادلة، هي في غنى عنها، لا ناقة لها فيها ولا جمل، حبها لدين غير عقيدة أجدادها، ولمجتمع غير مجتمعها، ولوطن غير بلادها، يجب الوقوف عند بعض الرموز مثل هذه المرأة التي لا يمكن تجاهل أو نسيان دورها وأثرها البالغ، حتى وإن اختلفنا في التقييم. يعجبني في هذه الشخصية النسائية العالمية رؤيتها بعيون غربية لوطن شرقي، وكيف انتبهت إلى التعرف الحقيقي على هذا المجتمع الذي عاشت في أعماقه لإبراز الجوانب الإنسانية والدينية المشتركة، وإظهار كل ما كان يتعرض له من اضطهادات. تعجبني أيضا بساطتها، صبرها، إيمانها، وتحديها لكل شيء، وربما أيضا لأنها اختارت ميدانا لمغامرتها السفرية بلدي الجزائر. وصفت في هذا الكتاب طفولة إيزابيل بغير السوية، هل أثرت طفولة الكاتبة على شخصيتها ومسارها ؟ طبعا، فطفولة كل شخص تؤثر في مسار حياته خاصة إذا لم يعرف كيف يواجهها، فقد نختلف في الحكم على شيء واحد ونحن قد عشنا طفولة واحدة وسوية، فتذهب أنت في اتجاه وأنا في اتجاه يعاكسه، وفي النهاية قد ننجح نحن الإثنين، كما قد تنجح الطريقة الأولى وتخفق الطريقة الثانية، والعكس صحيح، أما فيما يخص إيزابيل، فأقول ربما لو لم تواصل رحلتها إلى الجزائر تائهة، هائمة وباحثة عن نفسها، واعتزلت كل الأمور الأنثوية والدنيوية، مغادرة بذلك أوروبا موطن العلم والحضارة والتمدن آنذاك، لا همّ لها سوى الترحال والتأمل والبحث في تجليات الحقيقة، وإرساء قواعد الزهد والتصوف، وجعل الرجاء سلاحها ودواءها، لوقعت في ألم نفسي عميق قد يؤدي بها إلى الجنون أو إلى الانتحار كما فعل إخوتها، لأن السفر بالنسبة لها ليس فقط مغامرة واكتشاف بل مدرسة الحياة وتجربة العمر، بل أكثر من ذلك هو اللقاء الحقيقي مع النفس الممزقة وخاصة عندما يكون الإنسان بعيدا، وحيدا وغريبا عن كل شيء، وهنا يبدأ التفاعل مع الفعل، ويتغير مجرى الأمور. ذكرت بأن الفارسة المنسية عاشت بالمدن الجزائرية التالية: عنابة، باتنة، الوادي، الجزائر العاصمة، تنس، عين الصفراء، ماذا كتبت إيزابيل عن محطاتها الجزائرية ؟ كتبت عن الأوضاع السيئة التي كان يعيشها المجتمع الجزائري والانتهاكات الاستعمارية بجميع أنواعها وأشكالها، كتبت عن ذلك الرفض القوي لهذا الشعب رغم جهله للأشياء والإصرار الصلب على عدم التشبه والارتباط بهذا المحتل الحقير، كتبت رافضة رفضا قاطعا ذلك الوضع، وتلك الحالة المزرية، كتبت أيضا تصف جمال الجزائر وبهائها والحضارات المتعاقبة عليها وكرم أهلها وحبها لعقيدتهم التي تشعر فيها بالراحة والاستمرار رغم فهمها البسيط للدين الإسلامي وشعائره، ولكن إيمانها الصافي والعفوي أشبع غليلها، لأنها مثقفة وتعرف جيدا أنها لا تكتفي بما عندها وما تعرفه، بل هي على يقين أن عند غيرها كثير مما تحتاج إليه لتضيفه إلى فكرها، وبذلك تفتح به عقلها على آفاق رحبة. كيف تعامل أفراد المجتمع الجزائري مع إيزابيل خاصة أنها أوروبية وترتدي لباس رجالي وتجالس الرجال كثيرا ؟ لم يكن الجزائريون الذين عرفوا إيزابيل ينظرون إليها نظرة سيئة، ولم يجدوا ما يزعجهم أو ما لا يرضيهم في ملبسها وفي تصرفاتها، بل بالعكس، كانوا يحيطونها بسند كبير ومؤازرة لا مثيل لها، خاصة عندما كانت متواجدة بمدينة باتنة قبل نفيها من قبل السلطة الاستعمارية كامرأة أجنبية، فهي لم تنس أبدا كرم وفضل هؤلاء البسطاء عليها رغم إمكاناتهم المادية والمعنوية البسيطة إن لم تكن منعدمة، وقد وصفتهم في مذكراتها بمحبي الخير وفعل الخير، وبأنهم يحسنون الظن بالغرباء، كما كانت تصف دائما الجزائريين ككل بحسن الكرم والضيافة والمواساة رغم فقرهم ومعاناتهم، ولم تكتب ولو مرة بأنها تشعر بالغربة في بلد غير وطنها، ولم يراودها شك مطلقا بأنهم يظنونها عميلة، فقد كانت تحظى بكل الاحترام والتقدير والتعاطف أينما حلت وارتحلت في مدن وقرى الجزائر. فرنسا كانت تنظر بعين الريبة تجاه الكاتبة المتمردة؛ حيث اتهمتها بالجوسسة وحكمت عليها بالطرد من الجزائر، هل لعقيدتها الإسلامية وزواجها من جزائري دور في التهمة والحكم الصادر ضدها ؟ فرنسا كانت تتهمها حقا بالجوسسة لمصالح أجنبية، وكانت تتابع كل تحركاتها في جميع مناطق البلاد، وشنت حملة شرسة ضد تواجدها على أرض الجزائر، كما تؤكد تقارير البوليس نية الإدارة الفرنسية في طردها من الجزائر، خاصة بعدما وظفت عبد الله بن محمد الذي أقدم على محاولة اغتيالها بالبهيمة بسوف، بعدها لجأت إلى نقل زوجها من سوف إلى باتنة لتبعده عنها، إلى غير ذلك من الأعمال الخفية والمكائد التي كان يستعملها العسكر والبوليس ضدها، لأن الاستعمار يعمل كل ما في وسعه من أجل بلوغ أهدافه، ولا يتوانى في تحطيم كل من يسبح عكس تياره، وخاصة عندما يكون البلد خاليا من الحراس (من مفكرين ومثقفين وسياسيين)، وهذا ما جعل المستعمر يصفها بالجاسوسة والأجنبية وهذا هو سر المشكلة. قدّمت الكاتبة الكثير للجزائر خاصة من خلال وصفها لأوضاع المجتمع الجزائري السيئة جراء الاحتلال الفرنسي لوطنه في كتاباتها، في مقابل ذلك، ماذا قدمت الجزائر لهذه المناضلة الإنسانية خاصة أن مسكنها الموجود بمدينة باتنة إلى غاية اليوم آيل للزوال ؟ إيزابيل قدمت للجزائر ما استطاعت تقديمه، لا يجب أن ننسى أنها ليست جزائرية، وكل ما قدمته كاف عن كل شيء - قلّ أو كثر- يستحق التشجيع لأنه يبقى مميزا رغم أنف الأعداء، فكل ما أعلمه أن هناك بعض الجمعيات القليلة جدا على مستوى الوطن تقوم من حين لآخر بتنظيم ملتقيات وتحاول جمع ما أمكن من أبحاث ودراسات وكتب ومقالات عن هذه الكاتبة، وهذا أمر يشكر عليه المبادرون به، فهو أسلوب مشجع للتذكير والتنافس على العمل الصالح. وأقول صراحة أن هذه المرأة لم تنل بعد من أهل الفكر والعلم والسلطة والحكم في الجزائر حظها من العناية والعرفان والتقدير، فسوف نبقى دائما مدينين لها بالعمل والجهد والتقدير.