كرمتني مؤخرا جامعة باتنة، جاء التكريم مشتركا من الطلبة (الاتحاد الوطني للطلبة الجزائريين) وأساتذة قسم الفلسفة وكلية الآداب واللغات والعلوم الإنسانية. شعرت بسعادة وأنا أعود إلى هذه المدينة بعد غياب عنها دام قرابة عشرين سنة، لقد وجدت باتنة مدينة مدهشة بناسها وجامعتها. لقد تغيرت المدينة كثيرا كثيرا. * كان التكريم مسبوقا بندوة حول "أزمة المقروئية في الجزائر" والمنظمة تحت شعار "شعب يقرأ، شعب لا يجوع ولا يستعبد" وقد تحدث في الندوة كل من الدكتور عمر بوساحة والأستاذ خالد عبد الوهاب وترأس الجلسة الدكتور عبد السلام ضيف وتحدثت أنا أيضا عن القراءة الثقافية والأدبية في الجزائر: القراءة التقليدية والقراءة الإلكترونية. * * طلبة يهتمون بالكتاب: * إن اختيار "أزمة المقروئية في الجزائر" كإشكالية للندوة تدل على انشغال بدأ بالفعل يسكن هاجس الجزائري في يومياته، وإذ استمعت إلى مداخلات وأسئلة الطلبة بدا لي بأن الطلبة في المدن الداخلية شأنهم شأن مثقفيها منشغلون بالكتاب أكثر من زملائهم الطلبة في الجامعات العريقة والمركزية، والأمر أيضا ينسحب على حال المثقف، فمثقف المدن المحيطية هو مثقف يتابع ويقرأ ويخاف من إصدار الأحكام عكس ما هو عليه مثقف المدن المركزية. * * استفهامات كثيرة عن أرقام المقروئية في العالم العربي * تساءلت في هذه الندوة تعليقا وتعقيبا على المداخلة المتميزة التي قدمها الأستاذ خالد عبد الوهاب، عن مصداقية الإحصائيات المقدمة من جهات دولية كاليونيسكو والمعتمدة في كثير من البحوث والدراسات والتي تبين بأن العربي لا يقرأ. وأنا شخصيا أعتقد بأننا على مشاكلنا وعلى تقلص مجال حرية التعبير وحرية استيراد الكتاب وأشكال الرقابات الغبية والجاهلة والغامضة في كثير من البلدان العربية، على الرغم من كل ذلك، وأستخلص هذا من خلال تجربتي كمدير عام سابق للمكتبة الوطنية وخاصة من خلال العمل الذي كانت تقوم به المكتبات المتنقلة في توصيل الكتاب إلى القرى والبلديات الصغيرة النائية وأيضا من خلال حضوري ككاتب في المعارض الدولية للكتاب في الجزائر والعالم العربي: المغرب، تونس، سوريا، القاهرة والدوحة والشارقة ومن خلال أيضا لقائي بالقراء في كثير من المدن الجزائرية، واستنادا إلى ما لاحظته من إقبال على شراء الكتاب وتعطش إليه وكذا النقاش الذي يعكس اندماج الجزائري في سؤال الكتاب، استنادا إلى ذلك، فإني أقول بأن الإحصائيات المقدمة من قبل الهيئات الدولية المهتمة بالكتاب عن القراءة والقارئ في العالم العربي غير صادقة وغير موثقة وعدم صدقيتها وعلميتها نتاج لما يلي: * 1 إن الباحثين الذين توكل لهم مهمة البحث في شأن القراءة والقارئ لفائدة هذه الهيئات لا علاقة لهم بالثقافة والكتاب على وجه الخصوص، فهؤلاء الباحثون لا يشغلهم سوى تلك المنح التي يكافئون بها. * 2 غالبية الباحثين الذين يقومون بهذه "التقارير" يقيمون في بلدان أجنبية والأرقام الفجائعية التي يقدمونها يريدون إرضاء الأجنبي وهم في ذلك أيضا يتلذذون بتعذيب الذات. * 3 تنسى هذه الإحصائيات المقدمة بأن القارئ في الجزائر مثلا وفي بلدان المغرب العربي بشكل عام هو قارئ مزدوج اللغة فهناك قارئ بالعربية وهناك قارئ بالفرنسية ولكل صنف ذهنيته ومرجعياته واختياراته. * 4 نسمع ونقرأ مرات ومرات العبارة التالية: "إن أكبر كاتب عربي لا يبيع أزيد من ثلاثة آلاف نسخة"، أيعقل أن يكون عدد سحب رواية "موسم الهجرة إلى الشمال" للطيب صالح أو "الثلج يأتي من النافذة" لحنا مينة أو "كزهر اللوز أو أبعد" لمحمود درويش أو "ذاكرة الجسد" لأحلام مستغانمي أو "في نقد العقل العربي" لمحمد عابد الجابري وغيرها من العناوين... أيعقل أن لا يتجاوز عدد سحب هذه العناوين ثلاثة آلاف نسخة؟ هذا أمر مغلوط ومردود. * 5 دون شك فالتهرب الضريبي في العالم العربي هو الذي يجعل كثيرا من الناشرين لا يصرحون بعدد سحب هذا الكتاب أو ذاك، وهو ما يؤكد فساد الأرقام المقدمة من قبل الهيئات الدولية عن القارئ والقراءة في العالم العربي. * 6 إن ظاهرة قرصنة الكتاب متفشية في العالم العربي، فمئات الكتب تتم قرصنتها وتسحب منها آلاف النسخ، فليست هناك قوانين رادعة لمثل هذه الممارسات، فكتب أمين معلوف ونزار قباني والسيد قطب وإحسان عبد القدوس وجبران خليل جبران وغيرهم تتم قرصنتها وتسحب منها ملايين النسخ في أشكال طباعات شعبية أو غير شعبية، وهذه القرصنة تكاد تكون مشروعة في العالم العربي، بل لا يتردد كثير من القراصنة في مدح ما يقومون به بحجج الدفاع عن الكتاب أو محاربة الجهل أو الالتفاف على الرقابة. * 7 إن الكتاب الجيد له قارئ جيد عددا وقيمة. وهذا القارئ نجده في العالم العربي كما نجده في العالم الغربي. صحيح إن هناك جملة من الأعطاب التي تمنع حركة الكتاب الجيد وعلى رأس ذلك الرقابة الجاهلة في بعض الدول العربية وغياب الاحترافية في صناعة الكتاب لدى كثير من المشتغلين بالنشر، ولكن أيضا لا يمكن الاستهانة بتجربة كالتجربة اللبنانية في صناعة وثقافة النشر والدراية بسوق الكتاب وغيرها. * 8 إن الناشر الجيد يصنع كاتبا جيدا، وهذه أيضا ظاهرة عالمية فدور النشر المحترفة تصنع نجوما في الكتابة، حتى أنها تحول بعض الكتاب إلى بورصات عالمية. وشخصيا أعتقد أن هناك مجموعة من دور النشر العربية التي أصبحت تحترم نفسها وتسوق أسماءها من خلال احترام خط ثقافي وفكري وجمالي تدافع عنه وبالتالي تدافع عن نوع من الكتاب الذين ينسجمون وهذا التوجه. * 9 الوالي يقرأ: في جلسة عشاء بسيطة دعاني إليها والي ولاية باتنة السيد عبد القادر عزقي اكتشفت في هذا المسئول قارئا نموذجيا، استمعت إليه وهو يعرض ما قرأ وما يقرأ، واستمتعت بحديثه عن كتب قرأها عن الأمير عبد القادر، وتحدث عن حياة إيزابيل إبرهار وعن السينما وشعرت بأن حديث الوالي أكثر عمقا ثقافيا وأدبيا من حديث كثير من الأساتذة الجامعيين في الآداب واللغات. قلت في نفسي لو أن للجزائر كمشة من مثل هذا الوالي متموقعين في هرم السلطة لكانت الثقافة الجوارية بخير، ولعم السلوك الحضاري الراقي. ولعل حديثه في الأدب والقراءة يؤكد أيضا بأن هناك بداية مصالحة بين الكتاب والطبقة الوسطى من المجتمع الجزائري. * 10 وإذا كان الوالي يقرأ ويتحدث كمثقف مسكون بالكتاب والسينما والتاريخ، فقد صدمت بظاهرة ثقافية غريبة، وأنا عائد من باتنة إلى قسنطينة حيث كنت على موعد مع طلبة الماجستير قسم الفلسفة للحديث معهم في مسألة فلسفة جمال العربية، توقفت بمدينة عين مليلة، مدينة الشهيد البطل العربي بن مهيدي، وقد طلب مني التحدث في جلسة خصصت للاحتفال بذكرى 19 مايو، ذكرى الطالب، وقبل أن يبدأ اللقاء دعاني أحد الحضور لتناول فنجان قهوة مشكورا بمقهى غير بعيد من القاعة التي يقام بها النشاط، وإذ جلسنا قدم لي نفسه على أنه عضو في اتحاد الكتاب الجزائريين، فسألته عن طبيعة كتاباته، أيكتب الشعر أم القصة، فقال لي بكل ثقة في النفس بأنه لا يكتب لا هذا ولا ذاك ولكنه يكتب "الرقيا"، وشرع في شرح الرقيا وكيف أنه استطاع أن يقوم بتجربة خارقة للعادة؟ من خلال الرقية يستطيع أن يقضي على الحشائش الضارة وبها أيضا يستطيع أن يحمي النباتات المنتجة. شربت القهوة وقلت في نفسي: أينكم يا صانعو اتحاد الكتاب الجزائريين: مفدي زكريا، مالك حداد، محمد العيد آل حليفة، مولود معمري ويا جان سيناك، يا عبد الله ركيبي وزهور ونيسي وجمال عمراني وقدور محمصاجي... وغادرت المقهى حزينا.