يضعون صغارهم في "باسينات"المياه الباردة و يفطرون خارج بيوت جهنم سكنات من غرفة واحدة ارتفاعها عن الأرض لا يتعدى المترين مغطاة بصفائح الزنك الحارقة و أحيانا بصفائح "الترنيت" الأزرق الذي ارتبط اسمه بحياة البؤس و الشقاء التي عاشها سكان الضواحي الذين هاجروا من الأرياف و القرى الى المدن الصناعية منتصف السبعينات للعمل و تغيير حال لم تتغير على مدى سنوات طويلة. في هذه الغرف يعيش بقايا سكان الصفيح بقالمة الذين يخضعون منذ أشهر الى عمليات ترحيل متواصلة في إطار البرنامج الوطني للقضاء على السكن الهش الذي سيصبح صفرا معدوما نهاية 2014 كما يقولون لكنه سيبقى ذكرى عالقة في أذهان جيل كامل من المعذبين الذين عاشوا هنا بعضهم رحل أخيرا الى سكنات جديدة و البعض مازال ينتظر و يتمنى بان يكون هذا آخر صيف و آخر رمضان بسكنات الصفيح التي تخفي بين جدرانها المتداعية أسرار بشر يحترقون كل صيف ثم تتبدل جلودهم ، يتعافون عندما يأتي الربيع في انتظار صيف آخر و صيام لا يقدر عليه الكثيرون ممن تعودوا على الاحتجاب شهر كامل داخل الغرف المكيفة الى أن ينقضي رمضان. كيف يقضي سكان الصفيح أيام الصوم و كيف يواجهون موجة الحر القوية التي حولت مدنا و قرى بأكملها الى فضاءات خالية من البشر؟ دخلنا أقدم حي صفيح بالجوهرة السياحية حمام دباغ يسمونه عين بن نعمان و جدنا بقايا الأكواخ المهدمة في كل مكان لقد رحل أصحابها الى سكنات جديدة أين قضوا أول رمضان بعيدا عن العطش و حرارة الصفيح و بالرغم من عمليات الترحيل المكثفة إلا أن سكنات الصفيح مازالت قائمة عند أطراف الحي و بعضها التصق بالمنحدر المقابل لعين بن نعمان قيل لنا بان بعض الساكنين بمقابر الأحياء قد أدرجوا على قوائم البناء الريفي و سيرحلون عندما تقام لهم بيوت جديدة و البعض ينتظر شققا بعمارات السكن الاجتماعي التي يجري إنجازها بالقطب الحضري الجديد الذي بدأ يتمدد باتجاه الجنوب ليعمر أراضي البور التي كانت عرضة لزحف الصفيح. اقتربنا من منزل قصديري يكاد سقفه يلتصق بالأرض كانت طفلة صغيرة تلعب قرب باب الغرفة الصغيرة ثم اختفت بعد أن خرج جدها عمي السبتي الذي حدثنا عن يوميات الصيام داخل بيوت جهنم و كشف لنا بعض أسرار المعذبين التي لم تكن تخطر على بال احد من قبل"نعيش حياة الجحيم منذ دخول الصيف و تعقدت أوضاعنا أكثر خلال رمضان بعد أن اشتدت الحرارة و أصبح العيش داخل بيوت القصدير مغامرة حقيقية و خطرا كبيرا على الأطفال الصغار، نهرب أحيانا الى الأحياء المجاورة في النهار و نعود في الليل عندما تنخفض درجات الحرارة التي أجبرتنا هذه السنة على تناول الإفطار خارج البيوت لأنه من الصعب البقاء بداخلها قبل أن تصل التيارات الهوائية الباردة من سد بوحمدان المجاور بعد منتصف الليل". و يعتمد سكان الصفيح على بعض التقاليد القديمة للتعايش مع الظروف المناخية القاهرة ، يغطون سقف البيوت بقصب البردي الذي ينمو بكثافة على ضفتي وادي بوحمدان و يستعملون قماش "الخيشة" لتبريد مياه الشرب التي تترك خارج المنزل في غالب الأحيان حتى تتعرض للتيارات الباردة خلال الليل ، و يتجنب سكان الصفيح تخزين المواد الغذائية سريعة التلف خاصة بالنسبة للمحرومين من الكهرباء و أجهزة التبريد و التكييف يشترون ما يحتاجونه لإفطار يوم واحد و هكذا حتى ينقضي شهر الصيام. و تقضي نساء أحياء الصفيح ساعات طويلة من الليل متجمعات أمام منازلهن يتحدثن عن هموم العيش و الحرارة القوية و معاناة أطفالهن و يتحدثن أيضا عن المستقبل و قوائم السكن و مواعيد الترحيل و عمليات الهدم المتواصلة التي سمحت بوضع حد لنمو منازل الصفيح التي كانت تطوق ضواحي الجوهرة السياحية كما هو الحال بمدن أخرى مازالت تعاني الى اليوم وادي الزناتي نشماية تاملوكة بوشقوف عين بن بيضاء و غيرها من مدن ولاية قالمة التي تسعى الى تطهير الضواحي من الصفيح خلال السنوات القادمة. يضعون أطفالهم في "باسينات" المياه عندما تشتعل بيوت الصفيح و قد اكتسب سكان الأحياء القصديرية بقالمة خبرة كبيرة في التعايش مع الوضع القائم فهم يعتمدون على أفكار و وسائل بسيطة لمواجهة الحرارة كما يقول عمي السبتي الذي أشار الى طفلة صغيرة عمرها سنة ونصف يسمونها "رحيل"ترتدي لباسا جميلا و تحمل علامة مميزة بين حاجبيها و كأنها من أطفال الهنود يضعونها داخل "باسينة" المياه الباردة عندما يشتد الحر و تشتل أسقف الصفيح تقضي " رحيل" ساعات طويلة داخل مسبحها الصغير تماما كما يفعل أطفال أحياء الصفيح الذي كبروا داخل "باسينات" المياه و ربما بعيد عن ضوء الشمس كما هو حال أطفال الحدائق و الحواس بمدينة وادي الزناتي . رحيل التي كبرت "داخل باسينة " ماء و بالرغم من ضيق العيش و الحظ التعيس فإن سكان الصفيح يقضون رمضان متضامنين فيما بينهم يرضون بالقليل على مائدة الإفطار هم لا يبذرون و يجيدون الحسابات لما هو قادم من الأعوام الصعبة فقد يطول بقاؤهم هنا فيضطرون الى المغادرة و البحث عن مسكن آخر هربا من الجحيم و ربما يحالفهم الحظ و يرحلون الى سكنات جديدة و في كلتا الحالتين لابد من المال لمواجهة التكاليف و طوارئ الحياة التعيسة التي ألقت بالكثيرين في غيتوهات مظلمة تنعدم بها أدنى شروط الحياة والكرامة الإنسانية. فريد.غ