المثقف العربي طيف هامشي والكتابة مهنة المفلسين حاوره : رفيق جلول صدر مؤخرا للكاتب والناقد والأستاذ بجامعة بجاية بن علي لونيس كتاب بعنوان" تفاحة البربري " عن دار فيسيرا ، عن الكتاب وغيره حاورت النصر هذا الكاتب والباحث المتميز الذي يشتغل في أكثر من حقل، وينتمي إلى حساسية جديدة في النقد والابداع الجزائري. الكتابة محنة المبدع الأبدية، كيف ترى فيها لذّة كناقد يقرأ ويحلل النص ؟ هل هو قدر أن تكون الكتابة محنة؟ لا أجد تبريرا كافيا لهذا الربط بين الكتابة والمحنة. أنا أقصد فعل الكتابة ككتابة، لا حضور الكتابة في مجتمع يحتفي بالتافه. إذا كان ما تقصده هو هذا، فالكتابة محنة، ومهنة المفلسين. أجد الكتابة خارج حضورها الاجتماعي هي تعبير عن متعة سرية يعيشها الكاتب وهو يستسلم لأفكاره، باحثا عن أشياء موجودة في هذا العالم، ليكتشفها قال نيتشه أنّ الكتاب والفنانين هم مخترعي إمكانات حياة جديدة. أندهش دائما من هؤلاء الكتاب الذين ينبهوننا إلى تلك التفاصيل الضائعة من حياتنا. قد تعبّر هذه اللذة التي تكتنفني لحظة الكتابة عن أنانية كاتب أو نرجسيته، لأنّ التجربة لها خصوصياتها وفرادتها، أحاول قدر المستطاع أن أشارك القارئ شيئا من نفحاتها. كنا ننتظر لذة الكتابة ككتاب نقدي ، فإذا بتفاحة البربري تفاجئنا وهي تسقط من شجرة الإبداع، فهل يأخذك حب إلى الاكتشاف إلى هد الحد، إلى طرق باب الجد نيوتن ؟ لكن أخاف لما تسقط هذه التفاحة من شجرة الإبداع كما قلت، تموت بالإهمال فتتعفن وتصير لاشيء. في الجزائر من السهل أن تنشر كتابا، في شتى المجالات نقدا أو إبداعا لكن من الصعب ان تستمر في هذا المجال. كأنما قدرنا مرهون فقط بلحظة الولادة، وبعدها لا نعرف أي مصير مشؤوم ينتظرنا. نشرتُ مجموعتي القصصية الأولى "مقامات التروبادور" لكن لا أحد احتفى بهذا النص، فدار النشر لم تحترم حتى حقي في الحصول على نسخي، حيث سأتكفل لوحدي بالبحث عن القراء والتعريف بالتجربة للجمهور...هل فهمت ما أقصده؟ مع تفاحة البربري، الأمر مختلف، ربما هو الحظ الجميل الذي جعلني بين أيدي أمينة تملك حسا احترافيا، وأقصد دار فيسيرا وصاحبها توفيق وامان...هذا الإنسان ليس شاعرا مجدا فحسب، بل إداري محنك يعرف كيف يسوّق للكتب التي تصدر عن دار نشر فيسيرا...من المهم التفكير فيما بعد نشر الكتاب، أي تسويقه والتعريف به للجمهور، وإلا فإنّ كل هذا التفاح سيتعفن. النقد هو رؤية تبنّي النّص، ما رأيك حين يكون هو الأب المهدم ؟ فعلا، لقد أحسنت اختيار مصطلح ( التّبنّي )، على النقد أن تكون علاقته، كما كتبتُ في إحدى دراساتي المنشورة في كتاب ( تفاحة البربري ) بالنص علاقة تبني لا بنوة. علاقة انتساب لا علاقة نسب. تعبنا من النقد الذي ينظر إلى النصوص وفق المنظور التالي: تقديس نصوص الكبار، والتعامل بأبوية مقيتة مع نصوص الصغار. لقد قال المرحوم بختي بن عودة رحمة الله عليه، أن النقد في الجزائر موزع بين المديح والذم وبينهما يضيع النقد تماما. لا يجب ان يكون النقد هو هذا، إنه بالأساس تجربة معرفية، وهو تجربة كتابية تنضج كلما كان وعي النقد بذاته وبأدواته هو ضرورة من ضرورات الممارسة النقدية..لكن للأسف لم نراكم ثقافة نقدية كفيلة بأن تخلق فضاءات للممارسة النقدية الحقيقية. في قراءتك عن بختي بن عودة السؤال الحداثي الذي رحل في التسعينيات ، أشرت أن الحداثة مؤجلة كيف تفسر الوضع الراهن، وهل الأصالة تختلف دوما عن الحداثة ؟ الحداثة والأصالة؟ ديالكتيك وعينا الراهن، وقد عجزنا عن تجاوزه. لكن الأكيد أنّ الأطراف التي تتبنى سواء مواقف الحداثة أو الأصالة يمارسون بطريقتهم تعصبات كريهة جدا. لا نفكر بمنطق الإضافة بل بمنطق العداء الأبدي؟ الإسلام في لحظة انبثاقه التاريخية كان لحظة حداثية حقيقية، فالحداثة تعني التغيير، التحوّل والصيرورة. أتعجب من هؤلاء الذين يدفنون أنفسهم داخل مفاهيم وتصورات توهمهم أنهم بلغوا سدرة المعرفة والوعي. نحن في حاجة إلى حفر جينيالوجي نيتشوي يقلب منظومة القيم التي نحن منغلقين في أسرها...في غياب هذا فكل المشاريع مرجأة إلى حين...وما يحزنني أن المثقفين أنفسهم ساهموا في إفشاء ثقافة الأصولية. ما رأيك في لغة الجسد التي أشرت إليها في قراءتك عن رواية "السماء الثامنة " للدكتور أمين الزاوي والتي هي احدى اشكاليات الكتابة الروائية الراهنة ؟ الرواية احتفت بشكل ملتبس بالجسد. صحيح أنّ الروائي في حجم أمين الزاوي استطاع أن يحوّل الجسد إلى مادة سردية أتقن أدواتها بشكل جميل، لكني طرحتُ هذا السؤال: لمن يكتب الروائي؟ لماذا التبئير على الجسد حتى بدت شخصيات الرواية مهوسة جنسيا، لا يقف أمامها لا رادع أخلاقي ولا حتى إنساني. ثمة رؤية اكزوتيكية تتجلى من خلال هذا النوع من الكتابة، تعيد إحياء الروابط بين الشرق الشهواني والميتروبول الأوروبي الذي يحن وهذا أكيد إلى هذه التجربة الحسية. في تسعينيات القرن الماضي تعرض المثقف للاغتيال، وهذا ما أشرت إليه في قراءتك عن رواية " بخور السراب " للروائي بشير مفتي، ما رأيك في كبح رؤاه الراهنة ما بعد التسعينيات وهل الأصوليات لها يد في ذلك أيضا ؟ حتى اليوم يتعرض إلى عمليات اغتيال، لكن بيد المثقفين أنفسهم تارة، وبيد السياسات الثقافية تارة أخرى. سأتحدث عن الكاتب بغض النظر عن تخصصاته، ما موقعه داخل المجتمع؟ هل يمكن أن تكون الكتابة مهنة يقتات الكاتب من عائداتها المالية؟ صحيح أن الكتابة شأن ثقافي وفكري وجمالي لكن لا يجب أن ننسى أنّها أيضا في الدول التي تحترم الثقافة وتحترم مثقفيها هي مهنة لها بورصتها الخاصة، حيث يجد الكاتب مؤسسات ورجال أعمال وإعلام يحتفي به. دعا أدونيس الرئيس السوري إلى تغيير النظام ضمن موقف للكاتب مما يحدث، إلى أب حد يمكن ان بلعب المثقف العربي دورا سياسيا؟ يجب أن نعترف بهذه الحقيقة: المثقف العربي مجرد طرف هامشي فيما يحدث من حراك ثوري أو سميه ما شئت، من سيقتنع أنه طرف في معركة الشارع؟ أعتقد أن موقفه الوحيد هو موقف بعدي، يصف ويحلل ويندد أو يدعّم، وقد ينقلب على مواقفه. لا أستطيع الحديث بثقة عن مثقف ملتزم يخوض الثورة من الداخل، وربما من عيوب هذه الثورات العربية أنها انفجرت دون أن يتم تأطيرها ولو بقاعدة فكرية. أقمتم مؤخرا بجامعة بجاية " ملتقى الشعرية المغاربية المعاصرة " الذي جاء بطابع مغاربي ، كيف كانت الفكرة التي جاءت بها جامعة بجاية التي تتمتع بأساتذتها الشباب ؟ وكيف كان صدى هذا العمل ؟ لا أعرف ما الذي سأقوله هنا؟ فعلا، المشروع كان شبابيا، لكني يجب أن أقول أننا لم نجد الدعم، بقدر ما اكتشفنا ممارسات لا أخلاقية ولا مسؤولة من البعض الذين يتوارون وراء شهاداتهم العليا لكن لما يكتشفوا مجموعة من الشباب ينشط ويحاول بعث الروح في الجامعة يقفون في وجههم. لقد تعلمت أنّ غياب الحيوية الفكرية والإبداعية في الجامعة الجزائرية مردها أيضا إلى مثل هذه العقليات، الأموال موجودة، الهياكل متوفرة أيضا، لكن العقليات التعيسة تقف حائلا دون أن تنهض الجامعة من سباتها المرير. الجامعة يا صديقي هي منبر المعرفة، لكن أُريدَ منها أن تكون منبرا للجهل. وأخيرا ما الجديد الذي يستطيع انتظاره القارئ م من بن علي لونيس ؟ مشاريع كثيرة، لكن أهمها استكمال رسالة الدكتوراه عن فكر المثقف الفلسطيني ( إدوارد سعيد )، العمل طموح جدا، ومتشعب كثيرا، وضعني في عديد من الإشكاليات الفكرية والأدبية والنقدية الهامة، خاصة التي جاءت في سياق الحركة الفكرية ما بعد الكولونيالية. نحن في أمس الحاجة إلى الوعي بأسس الخطاب الفكري والنقدي لهذا المفكر المدهش. كما أني شرعتُ في كتابة مجموعة قصصية ثانية أتمنى فقط أن أنهي منها، وكتاب آخر نقدي عن التجربة الشعرية الحداثية في الجزائر، سأركز فيها على التجارب المعاصرة على غرار: عبد الرزاق بوكبة، بوزيد حرزالله، الطيب لسلوس، عزالدين جوهري وتوفيق ومان.....والمستقبل يفتح الشهية أكثر.